الروائي العماني سليمان المعمري: روايات كونديرا حرضتني على التأمل والسؤال

  • 3/7/2015
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

يرى الروائي والكاتب العماني سليمان المعمري أن تراجع اهتمامنا بالقراءة علاوة على عدم اهتمامنا بمناهج التعليم، جعلنا في مؤخرة الركب الحضاري اليوم، ويقول لم يصل الغرب إلى ما وصل له من مخترعات غيرت من الحياة، إلا بالقراءة والاطلاع والمعرفة كما شبه المعمري تأثير القراءة في الانسان كتأثير الغذاء لمعدته بأنواعه المختلفة حيث يؤدي إلى نمو اجسامنا، جاء ذلك خلال حوارنا معه على منضدة قصتي مع كتاب مضيفا أنه لا يتذكر متى بدأت علاقته بالقراءة، ومع هذا فهو يتذكر أول الكتب التي قرأها في سن المراهقة في منتصف الثمانينات القرن العشرين عندما تعرف على روايات نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس وبمرور الوقت فقدت تلك الروايات حظوتها عنده قائلا لا يمكن أن نظل نحن كما نحن نتغير مع الوقت وكل كتاب نقرؤه نرى فيه حياتنا القادمة، يعد الروائي سليمان المعمري من أكثر الكتاب العمانيين قراءة حسب استفتاء عام 2014 م كما حصل على جائزة يوسف إدريس العربية للقصة القصيرة في دورتها الأولى عام 2007 م ووصل بروايته «الذي لا يحب جمال عبدالناصر» إلى ذروة الشهرة ليس على مستوى عمان وحسب بل على مستوى الوطن العربي فإلى الحوار: فقدنا القراءة والمعرفة فأصبحنا في مؤخرة الركب الحضاري * ما الكتاب الذي أحدث تأثيرا فيك بعد قراءته؟ - أشبه تأثير القراءة في الانسان بتأثير الغذاء لمعدته الغذاء بأنواعه المختلفة وفيتاميناته المتنوعة هو الذي يؤدي الى نمو أجسامنا، ولكننا لا نملك دليلا على أن تلك التفاحة هي التي أدت الى هذا النمو، أو تلك السمكة المشوية، أو ذاك العصير واذا كان المثل الفرنسي يرى أن الأسد بضعة خراف مهضومة، فمن باب أولى أن عقولنا هي مجموعة من الكتب المقروءة التي هُضِمتْ جيدا وصارت جزءا من كينونتنا، دون أن نشعر ربما، أو ندري أيها بالضبط تسلل الى دواخلنا بخفة لا أذكر بالضبط متى بدأت علاقتي بالقراءة، ولكني أذكر أول كتب قرأتها في سن المراهقة في منتصف ثمانينيات القرن العشرين تعرفتُ على روايات نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي، وغبتُ في عوالمها التي كانت مُدهشة لي آنذاك متخيلاً أنني أتلصص على حيوات حقيقية لا مختلقة أتذكر في هذا الصدد روايتين لا يمكن أن أنساهما ما حييت، حتى وان كنتُ نسيتُ كثيراً من تفاصيل الحكاية التي ترويانها: "العمر لحظة" ليوسف السباعي، و"الحب تحت المطر" لنجيب محفوظ.. فهاتان الروايتان هما بداية تعرفي على أن هناك بشراً قادرين على نسج حياة أفضل من الحياة التي نعيشها، حياة مليئة بالأمل والألم والأبطال الذين يناضلون من أجل قضية جديرة بالاحترام. ربما هذا ما زرع فيَّ بذرة الكتابة بعد ذلك، لكنني اليوم لا أقرأ احسان عبدالقدوس ويوسف السباعي بذات شغف الثمانينيات. بل أكاد أقول ان بعض روايات نجيب محفوظ فقدتْ حظوتها لدي.. أظن هذا أمر طبيعي فنحن نتغير مع الوقت لا يمكن أن نظل نحن نحن.. كل كتاب نقرؤه يُبعدنا خطوة عن حياتنا الحالية ويقربنا خطوة مماثلة نحو حياتنا القادمة. سأضرب مثلا آخر.. في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، أي في بدايات انخراطي في الكتابة القصصية، كنتُ أحاول قراءة أسماء مشهورة في فن الرواية سمعتُ كثيرا من الكتاب والنقاد يتحدثون عن كونديرا كأحد أهم الأسماء في الكتابة الروائية قلت لنفسي كيف أزعم أنني كاتب ولم أقرأ شيئا لهذا الروائي الفذ. فكان أن وقعتُ على رواية "خفة الكائن التي لا تحتمل" ( ترجمة عفيف دمشقية)، ولكني لم أستطع المضي في قراءة أكثر من ربعها!. وعيي بالفن الروائي آنذاك لم يكن يؤهلني لأستوعب تأملات كونديرا عن فكرة «العود الأبدي» لنيتشه وأنا الباحث عن حكاية مدهشة أو لغة آسرة.. ولم تكن لتشدني عبارات من قبيل: «الحب يبدأ في اللحظة التي تسجل فيها امرأة دخولها في ذاكرتنا الشعرية من خلال عبارة»، أو «أن نحب أحداً شفقة به فهذا يعني أننا لا نحبه حقاً».. أو أن إقفالنا القبر بحجر «فهذا لأننا لا نرغب في رجوع الميت. الحجر الثقيل يقول له: «ابق حيث أنت»!.. هذه التأملات التي نفّرتني من هذه الرواية في ذلك الوقت هي ذاتها التي جعلتني أعتبرها أفضل كتاب أقرأه عام 2010، أي بعد أكثر من عشر سنوات من القراءة الأولى التي لم تكتمل، وهي سنوات كافية لتغيير الكثير في وعي وقناعات أي منا. * ما نوع التأثير وهل أنت مقتنع بالتأثير؟ - تمثل التأثير في تحريض هذه الرواية لي - كما كل أعمال كونديرا الأخرى - على التأمل والسؤال. فكم تخيلتُ نفسي أحدق في المرآة كتيريزا - بطلة الرواية - وأتساءل: ما الذي سيحدث لو أنَّ أنفي امتدّ كلَّ يوم ملليمتراً واحداً؟، وبعد كم من الزمن سيصير وجهي غير معروف؟، وإذا لمْ يعد وجهي يشبهني فهل أظل أنا أنا؟ حرضني كونديرا على أن أطرح مثل هذه الأسئلة وألا أستنكف السؤال عن أي شيء مهما بدا السؤال ساذجا، بل إنه يؤكد في هذه الرواية أن «الأسئلة الساذجة وحدها هي الأسئلة المهمة فعلاً. تلك الأسئلة التي تبقى دون جواب، إن سؤالاً دون جواب حاجز لا طرقات بعده. وبطريقة أخرى: الأسئلة التي تبقى دون جواب هي التي تشير إلى حدود الإمكانات الإنسانية، وهي التي ترسم وجودنا» ربما كانت هذه الرواية هي بداية دخولي عالم كونديرا، الذي يؤكد لي بعض الأصدقاء أنهم لا يستسيغون رواياته الى اليوم وما دمنا نتحدث عن التأثير سأتحدث أيضا عن رواية "النفق" للأرجنتيني أرنستو ساباتو (ترجمها عن الإسبانية عبدالسلام عقيل) التي رغم أنني لم أُعِدْ قراءتها منذ سنوات الا أن طعم الدهشة لقراءتها الأولى ما زلت أستشعره داخلي حتى هذه اللحظة هي واحدة من الروايات التي يمكن الزعم أنها قادرة على تغيير القارئ بعد أن يقرأها ومن باب أولى فهي غيّرتْ كاتبها أرنستو ساباتو بعد كتابتها إذ حولتْه من العالِم الحاصل على الدكتوراه في الرياضيات والفيزياء إلى روائي فذ عُدَّ واحداً من أهم ورائيي القرن العشرين، برغم قلة إنتاجه الروائي الذي لم يتعدَّ ثلاث روايات. أذكر بطل هذه الرواية جيدا رجل مجنون انطوائي مكتئب على الدوام، ويردد: كون العالم فظيعاً، فهذه حقيقة لا تحتاج إلى برهان.. إنه رسام يدعى خوان بابلو كاستيل لم يتمكن من التواصل مع أحد، ولا حتى مع المرأة الوحيدة التي يبدو أنها فهمتْه من خلال ما يرسم، والتي سيقتلها في النهاية بدافع الغيرة. يردد كاستيل في الرواية: كان هناك في جميع الأحوال، نفق واحد فقط، مظلم وموحش: نفقي أنا، لكننا سنكتشف نحن القراء أنه نفقنا نحن أيضاً الذي سندخله طائعين، ولن نكون نحن حين نخرج منه إذا قُيّض لنا أن نخرج تعلمت من ساباتو في هذه الرواية أن من يريد أن يختار الكتابة فعليه أن يكتب عندما يصل به الأمر إلى حد لا يطاق، عندما يُدرك أنه قد يصاب بالجنون إن لم يكتبْ.. * ما مدى استمرار تأثيره؟ - هناك عاملان مهمان يتوقف عليهما استمرار التأثير من عدمه. أولهما أصالة الكتاب الذي نقرأه وقدرته على الصمود في وجه الزمن، والثاني هو نحن القراء وتطور وعينا مع الزمن وتبدل قناعاتنا.. قد يبقى تأثير الكتاب لدرجة شعورك بنفس الرجفة اللذيذة التي انتابتك أثناء قراءته لأول مرة حتى ولو بعد سنوات، لكن تتغير قناعتك بفكرة ما قد وردت فيه. دعني أضرب مثالا برواية "النفق" التي ذكرتُها قبل قليل.. كانت سخرية بطل الرواية من النقاد تجد هوى في نفسي، اذ كنتُ أعتبرهم متكلفين ومتحذلقين وكتاباتهم غير ممتعة لأنها مليئة بالنظريات والتقعر الى أن قرأتُ كتاب "الأدب والارتياب" لعبدالفتاح كليطو. هنا تكسرت قناعتي بشيء ورد في رواية "النفق" ولكن ذلك لم يكسر قناعتي بالكتاب ككل. اذن، اذا كان لا يفل الحديد الا الحديد، فان الكتاب لا يمزقه الا كتاب آخر. واليوم أنا مقتنع أن من يصر على اعتناق المقولة الرائجة عن كون النقد عملية تالية للإبداع فما عليه إلا أن يقرأ دراسة واحدة للناقد المغربي عبد الفتاح كليطو ليوقن أن النقد أحياناً نص إبداعي محكم يدهشك ربما أكثر مما تدهشك قصيدة أو قصة أو رواية جميلة.. في "الأدب والارتياب" يواصل كليطو نبشه في التراث العربي شعراً وسرداً وفلسفة ومقامات متوغلاً في مناطقه الجمالية التي استُكشف بعضُها، وبقي الكثير بانتظار عين خبيرة قادرة على الغوص في عمق النص كعين كليطو.. يحوي الكتاب عشر دراسات نقدية مستقلة يجمع بينها رابط ظاهر أحياناً ومتوارٍ أحيانا أخرى هو الارتياب. يهمني هنا أن أتحدث عن الدراسة الأولى وعنوانها "نموذج" لأنها تصب في صميم هذا الحوار.. اذ يُلفتُنا كليطو إلى أن الارتياب هو أساس العلاقة بين الكاتب والقارئ، هذه العلاقة التي تصل إلى حد العداوة. قد لا يكون القارئ عدواً صريحا –كما يقول المؤلف– إلا أنه في الخفاء يبحث عن الثغرات ونقاط الضعف بهدف التهجم على الكتاب والنيل من مؤلفه.ويستشهد كليطو في هذا الصدد بعبارة الجاحظ في "الحيوان": "وينبغي لمن كتب كتاباً أن لا يكتبه إلا على أن الناس كلهم له أعداء" والكاتب هنا " يعرف أنه محل ريبة لمجرد أنه يكتب، فكأنه مقترف لذنب يجب التكفير عنه ولذلك تراه يتودد إلى القراء ويفاوضهم سعياً منه إلى استمالتهم وإضعاف شوكتهم وإبطال كراهيتهم "، ويضرب كليطو مثالاً بالجاحظ نفسه: "ولا أعرف مؤلفاً اهتم بالقارئ العدو كما فعل الجاحظ، فهو يشركه في مشاريعه ويدعو له ("حفظك الله".. )، ("أكرمك الله")، وفي كل لحظة يلتفت إليه ليتأكد من انتباهه ويذكي اهتمامه ".. دراسات هذا الكتاب المكتوبة بلغة رشيقة غيرت لي الكثير من قناعاتي.. من هذه القناعات مثلا أنني كنتُ أعتبر كتاب "البخلاء" للجاحظ كتاباً في ذم البخلاء كما علمونا ذلك في المدرسة منذ كنا أطفالا.فاذا بكليطو في دراسته "صورة البخيل بطلاً " يدعونا إلى تناول كتاب "البخلاء" للجاحظ من زاوية أخرى تختلف عن الزاوية التي تناوله بها معظم من كتبوا عنه، وهي زاوية كونه كتاباً في ذم البخل والبخلاء، مستشهدا بلوم ابن قتيبة، معاصر الجاحظ، له على نزعته إلى قول الشيء وضده. انه أيضاً كتاب -طبقا لهذه النزعة الجاحظية- في مدح هؤلاء البخلاء والارتفاع بهم من مجرد أشخاص مُحْتَقَرين ومُستَخَفٍّ بهم إلى أناس يدفع بهم تقشفهم وزهدهم وبلاغة خطابهم في الدفاع عما يعتنقونه (البخل) إلى مرتبة الحكماء والعارفين.. إنهم قوم " زهدوا في الحمد، وقل احتفالهم بالذم" فبخيل الجاحظ يرفض المسلّمة القائلة أن الكرم فضيلة والبخل رذيلة، ولا يخفي ريبته في الحكايات التي تروى عن الكرام وجودهم، بل ويحتقر الأشعار التي نظمت في تمجيد ما يعتبره "الإنفاق المفرط".. * هل ترى أن القراءة محرك أو دافع للتغيير في وقتنا الحاضر؟ - بالتأكيد. القراءة دافع للتغيير في وقتنا الحاضر. بل وفي أي وقت. ما الذي جعلنا كعرب متقدمين علميا وحضاريا في القرون السالفة غير القراءة والاهتمام بالعلوم والترجمة. وما الذي جعلنا اليوم في مؤخرة الركب الحضاري سوى نبذ القراءة وعدم الاهتمام بمناهجنا التعليمية. وهل وصل الغرب الى القمر، والى هذه المخترعات الكثيرة التي غيرت حياتنا الى الأفضل الا بالقراءة والاطلاع والمعرفة؟

مشاركة :