١٨٣ مرة كتب ترمب عبارة "مطاردة الساحرات" منددا بملاحقات المحققين له بتهمة التواطؤ مع الروس. وردد أكثر من ٢٠٠ مرة عبارة "أخبار مزيفة" بحق وسائل الإعلام التي تسرب معلومات من مصادر مطلعة عن عمالته. ورغم إصرار الرئيس الأميركي على نفي التهمة عنه فإنه زاد من شهية خصومه للنيل منه. ورأينا لأكثر من عامين الطرفين يتراشقان بالوحل بطريقة لم تعرفها أميركا في تاريخها. ولكن ترمب الآن في حالة مزاجية احتفالية وانتقامية عالية بعد أن أعلن تقرير مولر براءته بشكل كامل من أي تورط وتواطؤ مع موسكو. التقرير الذي انتظره العالم طويلاً لم يدن أيضا أحداً من أفراد حملته بتهم التآمر والتواطؤ مع قوة معادية، الأمر الذي يعد انتصاراً كبيراً لإدارته التي لاحقتها تهم الخيانة قبل حتى أن تصل للبيت الأبيض. خصوم ترمب من الديمقراطيين وغيرهم قاموا بربط حبل المشنقة على أعناقهم بعد أن طالبوا روبرت مولر بالتحقيق وهم لا يعلمون أن هزيمتهم ستأتي على يديه. غلطتهم الكبيرة أنهم لم يملكوا أي أدلة قاطعة واعتقدوا أن الضجيج المتواصل قد يتحول مع الوقت إلى حقيقة في قضية شديدة الحساسية مثل خيانة عظمى لهرم الدولة والتآمر لروسيا العدوة التاريخية للولايات المتحدة وليس أي بلد آخر. والمحقق الخاص مولر رجل قانون لن يرى في الحكايا والمرويات المثيرة التي تتردد في المجالس أي مصداقية إذا لم تحمل أدلة قطعية. وفِي قضايا الجاسوسية تحديدا تزدهر الشائعات وثرثرات النميمة التي يصعب إثباتها في جلسات التحقيق. وقد حاولت أطراف عديدة جره لحلبة الصراع السياسي في واشنطن إلا أنه زاهد بالأضواء ومجرد من العواطف الشخصية ومحصن من محاولات الإغواء والمديح التي مارستها وسائل إعلام وشخصيات سياسية لاستقطابه لصفها ووضعه ضد ترمب. كما فشلت محاولات ترمب لترهيبه وأخافته. كل ذلك لم ينجح وظل مولر صامتا منذ البداية وحتى بعد أن سلم التقرير النهائي لوزير العدل الأميركي وليام بار ثم غادر المشهد. ورغم أن القضية تحولت إلى سحابة سياسية سوداء كئيبة تظلل الحياة السياسية، إلا أن مصدر معلوماتها الأساسية تقرير استخباراتي مفبرك لجاسوس بريطاني سابق اسمه كرستوفر ستيل مدفوع من الحزب الديمقراطي عن علاقة سرية بين ترمب والروس جعلته رئيسا لأميركا وبالتالي دمية لبوتين. دفع له مبلغ كبير ليستخدم مخيلته الخصبة في حبك قصص جنسية مثل نوم ترمب مع عاهرات بموسكو وتوجد تسجيلات بحوزة الكرملين لابتزاز ساكن البيت الأبيض. هذا التقرير الملفق والمفتقر للحقائق المثبتة كان الهدف منه دعائي. لعبة سياسية مقبولة هدفها زراعة فكرة المؤامرة والشك بولاء الرئيس الأميركي وإدارته. الإشكالية أن وسائل الإعلام غير المعترفة بشرعية ترمب تبنته ونشرت تفاصيله واعتمدت عليه (وهنا الإشكالية الأكبر) قيادات من الأجهزة الاستخباراتية الكارهة لترمب مثل ليزا بيج وأندرو ماكيب فتحت تحقيقات بشأنه ما منحه مصداقية أكبر. وشهدنا بعدها مسلسلا طويلا من الاتهامات والملاحقات ودعاوى العزل وكلها لم تستند على أدلة حاسمة. ونشرت تقارير صحافية عن مراسلات بين أسماء بارزة داخل الأجهزة الأمنية مذعورة من احتمال فوز ترمب وبدأت حالة هيستيرية من التسريبات لمعلومات وقصص مفبركة. وما جعل المتابعين يشعرون أن القصة خطيرة وحقيقية هي دخول شخصيات قيادية مثل جون برينان مدير الـ"سي أي أيه" السابق الذي أعلن بشكل صريح عمالة ترمب. ولكننا نكتشف اليوم أن هذه القيادات لا تملك أي معلومات وكانت مندفعة بسبب كراهيتها الشخصية لترمب وخلافها الإيديولوجي والسياسي معه وعدم قناعتها العميقة به رئيسا شرعيا، لذا بدت مثل الكلاب الجائعة التي تهرع لالتقاط أي عظم يلقى لها. وفي الواقع أنهم قدموا للبيت الأبيض وفريقه الآن خدمة كبيرة وكانوا طيلة الفترة الماضية يطلقون النار على أقدامهم بدون أن يعرفوا. من يستطيع الآن تكذيب ترمب البريء بحكم القانون وهو يشتكي من المؤامرة التي كانت تحاك ضده أو يردد "أخبارا مزيفة" على من روجوا قصة خيانته! البريء ترمب سيكون بكل تأكيد أطول لسانا من المذنب ترمب وسيطلق النار بكل الاتجاهات! ومع أن هناك شخصيات صادقة في عدائها السياسي لترمب وتريد فعلا إزاحته حتى لو ارتكبت حماقة الاعتماد على وثائق مفبركة، إلا أن الرئيس الأميركي تحول لآخرين تنطوي شخصياتهم على جانب من خسة ودناءة لمصدر ثروة. تاجروا بالقضية وحولوها لمنتجات تسويقية من كتب ومقابلات وأفلام وبرامج. ولعلنا نتذكر كم الكتب الكثيرة التي ادعت أنها لديها الدليل الحاسم لعدم صلاحية ترمب وخيانته مثل كتاب "نار وغضب" للكاتب مايكل وولف الذي أثار ضجة واسعة حينها لكنه اختفى بعد أن باع ملايين النسخ. إنه موسم رائع للبيع والتجارة والاحتيال قد لا يتكرر في السنوات القادمة مع قدوم زعماء مملين ومسالمين وغير مغرين بالنسبة للباحثين عن الفضائح. وبعد نهاية هذه الدراما الطويلة، ماهي أهم فائدة عامة نخرج بها. في تقديري الشخصي هي الإدراك أن هذا الكم من التسريبات من مصادر مجهولة مطلعة وتقارير ملفقة وحديث شخصيات مهمة ليس بالضرورة أن تكون حقيقية وإنما تستخدم كسلاح سياسي لاغتيال الشخصيات وتلطيخ السمعة. قد تكون مجرد خدعة كبرى ولكنها خدعة محكمة ومتقنة.
مشاركة :