منافع العلم وآداب المتعلمين «1»

  • 3/30/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

إذا كان أفلاطون قد اشترط قابلية الذهن لاستيعاب (الحساب والهندسة والفلك والموسيقى) لتحصيل الحكمة الفلسفية، وإذا كان أرسطو قد جعل تفهم المنطق واستخدامه مدخلًا للمعارف العقلية، لإدراك الموجودات واستقراء الوقائع والاستنباط والاستدلال وغير ذلك من ضروب التعلم وتحصيل المعارف، فإن على مبارك قد نزع إلى أن الأخلاق المستمدة من جوهر الشرع وأدب النبى الطريق الأقوم لتهذيب العقل وتأديب النفس وتثقيف الذهن، وإذا كان فلاسفة اليونان قد جعلوا طلب الحكمة حبًا وعشقًا لإسعاد النفس العاقلة؛ فإن على مبارك قد نظر إلى العلم على أنه آلية من أهم آليات النهضة وأداة لإصلاح الفرد والمجتمع وسلم لترقية الأمم لتتقدم وتتطور.ولعل هذه النزعة العملية فى التفكير قد انتهجها تبعًا لطبيعة الأخلاق الإسلامية من جهة ونظرة المتكلمين والفقهاء والفلاسفة المسلمين للعلم والحكمة من جهة أخرى.فالأخلاق عند الصوفية فلسفة حياة، وعند الفلاسفة دستور للتربية، والعلم عند فلاسفة الإسلام هو الغرس والثمر معًا، فيبدأ فى صورة التلقين لشتى المعارف لتغذى عليها العقول والأذهان المتأهلة للنبوغ، ثم تفيض تلك الأذهان بثمار إبداعية أنتجتها ملكاتهم وإلهاماتهم، فمقياس نفع أى علم فى نتائجه ومنافعه، فالعلم بلا عمل لا يكون، والعمل بلا علم ضرب من الجنون.وقد انعكست هذه الأفكار مجتمعة على مسامرات على مبارك خلال حديثه عن علاقة الأخلاق بالعلم والتعلم، مسترشدًا بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والمأثور من كلام العرب والتحليلات الفلسفية، وذلك خلال النسيج القصصى – الذى سوف ننتزع منه الأفكار- الذى كان ينسجه بين أبطال حكاياته.فها هو على مبارك يستهل مسامراته بالحديث عن أخلاق العلم وآداب المتعلم، وذلك على لسان والد «علم الدين»، الذى يصف بدوره خصال بطلنا المتأهل لتحصيل العلم بفضل حسن تربيته وصلاح نشأته، فقد نشأ نشأة دينية وتأدب بآداب القرآن، واتخذ من الرسول وسيرته سنة لا يحيد عنها، واجتهد فى فهم ما يتلقن من معارف وما يجرى من حوله من أحداث ومواقف، وعُرف بين أقرانه بأنه ذكى ونجيب وحسن القريحة ومحب للعلم وطموح، فأراد أبوه إكمال تربيته وتعليمه فى أوان شبيبته حتى يلحق برتبة أكابر العلماء بالأزهر، لأنه منبع الفضائل، ومجمع الأفاضل، وموضع حسن التعلم والتعليم، ومرجع كل طلاب العلم من الأقاليم.وقد أوصاه والده – قبيل التحاقه بالأزهر – بآداب المتعلم ملخصًا إياها فى الامتثال لمعلميه وطاعتهم فيما يعود نفعه عليه، وأن يصرف جميع أوقاته فى تحصيل ما يرشدونه إليه، وأن يجتنب المناهى وأماكن الملاهي، وأن يكون فى الغدوة والرواح مع أهل الصلاح، ومن لهم شهرة بفعل الخير وحسن السير، واصطفاء الرفاق والأصدقاء ليكونوا عون له فى شدته ومجيبين لحاجته ومرشدين لصلاحه، فما أقبح من مصاحبة الأشرار، فإنه إن لم يفعل كأفعالهم نسب إلى أحوالهم.ثم اختتم أبوه حديثه بذكر آداب تلقى العلم والمتعلم، وذلك بقوله: «اعلم، يا بنى أن آداب المتعلم كثيرة، وسوف اختصرها لك فى عشر وصايا تلقيتها عن أسلافى من المشايخ، وهى مجربة فتعد فى جملتها أصولًا لما عداها من آداب وفضائل، أولها: تقويم النفس من رذائل الأخلاق كالغضب والكبر والحسد. وثانيها: الانصراف عن كل مشاغل الدنيا، والإخلاص فى طلب العلم، فإن العلائق صادفة وشاغلة، فالعلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك. والثالثة: عليك بالمداومة على تحصيل العلم بجد واجتهاد، فعليك بطرح الكسل والملل، فلا تقطع الأمل ولا تترك العمل، ولو طال الأمد، وبعد المدد. والرابعة: العزوف عن التكبر فى طلب العلم وعدم التعالى على المعلم، بل يلقى طالب العلم آلية زمام أمره فى التعليم، ويذعن لنصيحته إذعان المريض الجاهل للطبيب المشفق الحاذق، فالحكمة ضالة المؤمن يغتنمها حيث يظفر بها، ويتقلد المنة لمن ساقها إليه كائنًا من كان، فلا ينال العلم إلا بالتواضع وإلقاء السمع، والخامسة: تجنب الخوض فى المسائل المتشعبة قبل إتقان المبادئ والأسس وأصول العلم قبل الانصراف إلى مطالعة الآراء المختلفة حول مسائله، ولا يسمع لناقل دون رأي، أو التتلمذ على يد مقلد دون اجتهاد. والسادسة: الانتقال من العام إلى الخاص، ومن الكلى إلى الجزئى فى تحصيل العلوم. فينبغى على طالب العلم الإحاطة بكل ما يتيسر له من معارف نافعة، ثم يتخير منها ما يريد التخصص فيه والتبحر فى مسائله، فمن العسير الإحاطة بالمحيط، ويكفى الطالب تعلم كيفية الإبحار فيه، فالناس أعداء ما جهلوا، والسابع: الانتقاء فى جنى ثمار العلم، فالمتعلم النابه هو الذى يتخير الأفضل من رءوس الأقلام وتصانيف العلوم ليتجنب أدواء الجهل والعلوم المذمومة، والثامنة: التدرج فى صعود سلم العلم، فلا يجوز الانتقال من علم إلى آخر إلا بعد تمام السابق على اللاحق، ولا سيما فى العلوم المتصلة كعلم النحو المقدم على علم المعاني، وعلم الحساب المقدم على الهندسة، والتاسعة: النظر لمراتب العلوم من منظور المصلحة والنفع، وذلك لأن العلم يكتسب أهميته من ثمراته التى تعود على الإنسان بالصلاح والفلاح، لذلك فعلم الدين وأصول الشرع ومقاصده مقدم على غيره من العلوم الأخرى، كما أن العلوم المجربة ومنافعها مؤكدة تكون مرتبتها أعلى من غيرها.ويؤكد على مبارك أن تقدم العلوم الدينية على غيرها لا يعنى إهمال العلوم الأخرى، فعلة تقدم العلوم الشرعية يرد إلى جمعها بين النظر والعمل وحسن ثمار تعلمها فى التطبيق. ويقول: «فأشرف المعارف علوم الدين. لأن ثمرتها حفظ الأرواح ونجاتها من الوبال الأبدي... ولا يظن من تعظيم علوم الدين وتفخيمها تحقير غيرها من العلوم وتقبيحها، فمن قصد وجه الله وسبيل الخير بالعلم، أى علم كان، نفعه ورفعه لا محالة، وينبغى ألا يحكم على علم بفساد أربابه ووقوع الاختلاف حول مسائله، ولا بخطأ أحدهم، ولا بمخالفتهم موجب علمهم بالعمل، فلا تعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله، أما العاشرة والأخيرة: أن يكون مقصد المتعلم هو الخير دومًا، وأن غايته هى إسعاد نفسه والآخرين، فإن أحب الناس إلى الله أنفعهم لعباده، ولا يكون مقصد المتعلم بتحصيل العلم المفاخرة والمباهاة والمحاسدة للناس ومزاحمة أرباب الوظائف فى وظائفهم ومضايقتهم فى مناصبهم، فإن هذه المقاصد ذميمة».وقد نجح على مبارك فى تقديم ملخص لآداب المتعلم خلال هذه المسامرة مقتفيًا فى ذلك الموروث الفقهى والفلسفى فى الحضارة الإسلامية.وللحديث بقية عن مسامرات على مبارك التربوية...

مشاركة :