لم يقف على مبارك عند ذكر منافع العلم ومقاصده فحسب، بل ذهب موضحًا الأثر الإيجابى الذى يحدثه التعلم على سلوك الأفراد وترقية أذواقهم ونضج آرائهم وتصوراتهم، فيقول: «وأعلم أن العلم هو الكاشف للبصيرة، والمنور للسريرة، والماحى للجهل، والمبلغ صاحبة درجة أهل الفضل، وهو المؤنس فى الوحشة، والمحدث فى الخلوة، والجليس فى الوحدة، والصاحب فى الغربة، والدليل على السراء، والمعين على الضراء، والسلاح على الأعداء، وبالعلم يبلغ العبد منازل الأخيار فى الدرجات العلى، ومجالسة الكبار والملوك فى الدنيا، ومرافقة الأبرار فى الآخرة.... فالعلم ليس من أسباب الفقر، كما يزعمون، ولا الجهل من أسباب الغنى، كما يشيعون، ولا ملازمة بين هذه الأمور، بل القضية على العكس، والعلم أحد موجبات الغنى والسعة، والجهل أحد أسباب الفقر والضعة، فهناك أسباب أخرى غير العلم وغير الجهل، والعالم الحق هو الجامع فى معارفة بين العلوم الكلية والعلوم الجزئية والعلوم الفرعية، فالعلوم الكلية مثل علوم التاريخ والرياضيات والكيمياء والطبيعة والطب والشريعة وفروعها، أما العلوم الجزئية فهى مثل علم اللسان (اللغات) أما العلوم الفرعية منه فهى الصرف والنحو والعروض، «ومن اقتصر على العلم الملحق الجزئى والفرعى مقارنة بالعلم الكلى الحقيقى لم يكن عالمًا حقيقيًا، بل يكون كمن اكتفى باسم الخبز، دون أن يعرف حقيقته وطرائق صناعته، ومن تعلم العلم الكلى كان له أن يجنى الثمرة وينال البغية». ويمكننا أن نلاحظ من حديث على مبارك الذى أورده على لسان والد بطل رويته «علم الدين» وزوجته من قيم تربوية ومبادئ أخلاقية ثلاثة أمور: أولها: رد مشخصات بطل الرواية «علم الدين» لنشأته الريفية، وامتثاله للنصائح الأبوية وانصياعه للعوائد والتقاليد الاجتماعية. وثانيها: عدم فصل على مبارك القيم الأخلاقية عن الأصول الشرعية (الدين أصل الأخلاق) وثالثها: تأكيده على أن الأزهر هو قبلة العلوم ومطمح الراغبين فى العلم. وقد أراد بذلك كله التأكيد على أصالة خطابه من جهة وعدم مخالفته للسلطات العلمية القائمة، المتمثلة فى مشايخ الأزهر، من جهة أخرى.أما مضمون النصائح والتعاليم فهو مقتبس، كما ذكرنا، من الموروث العقدى ومصنفات المتكلمين والفقهاء والفلاسفة والصوفية فى أخلاقيات وآداب المعلم والمتعلم، بداية من ابن المقفع ونهاية بما أورده رفاعة فى كتاب «المرشد الأمين».ويؤكد على مبارك على أهمية تعلم اللغات الأجنبية، الأمر الذى جعله يهتم بإدراج تعلم اللغة الإنجليزية فى مراحل التعليم الأولى، فقد ذهب فى يونيه عام ١٨٨٨ أثناء توليه وزارة المعارف إلى تدريس التاريخ والجغرافيا والعلوم الطبيعية فى المدارس باللغة الإنجليزية مما أثار عليه سخط الوطنيين وجمهرة من شيوخ الأزهر، غير أن الحقيقة أن مفكرنا لم يكن يقصد من ذلك القرار إضعاف مكانة اللغة العربية فى المقررات الدراسية، بل كان يريد تعويد الطلاب على فهم النصوص الإنجليزية بالقدر الذى يمكنهم من قراءة المؤلفات التاريخية والعلمية والجغرافية وغير ذلك من معارف فى لغاتها الأصلية، والرد على كتابات المستشرقين بعد إطلاعهم عليها، فالرجل لم يكن يهدف إلى تعلم مبادئ اللغة فحسب أو إلمام الطلاب فى السن المبكرة ببعض المفردات أو الجمل، فالمراد هو تعود الطلاب فهم منطق وأساليب الكتابات الإنجليزية باعتبارها أكثر اللغات الأجنبية ذيوعًا، وفى هذا السبيل يقول: «إن من موجبات التقدم فى اللغات أمورًا، منها: الحفظ والتطبيق بالممارسة والمخاطبة، فان جمعت كل يوم بين هذين ثبت بذهنك كل ما حفظته واعتدت النطق به، وفى قليل من الزمن تصل إلى معرفة الكثير، ومنها المطالعة فى الكتب، وإتقان قواعد اللغة، ثم حفظ كثير من الأشعار ونوادر الأدب، ثم يشرع فى التدرب على الترجمة، بين اللغتين حتى يتقن هذا الفن، ولا يخفى على أحد أن تعلم ثقافة الأغيار يمكن الذهن من الارتقاء ويجعله قادرًا على دراسة شتى المعارف النظرية والتطبيقية، ويساعد الحرفيين كذلك على إتقان ما يقومون به، فيطورون ويجملون صنائعهم تبعًا لسعة اطلاعهم وقد اتفق العلماء والعقلاء من كل ملة على أن قدر كل إنسان وقيمته بقدر علمه وعمله، وعلى حسب ما اكتسبه، فما يضر لو علم الإنسان لسان قومه وقواعده، وعلم دينه ومذهب بلده، حتى يكون على بصيرة فى إدارة أموره وتقوية برهانه، وضم إلى ذلك السنة مللا أخرى، وأتقنها لتجذب إليه قلوب الأغراب، فيضيف معلوماتهم إلى معلوماته، لتزداد رغبة أهله فيه، وعلم مع ذلك تاريخ بلاده، وضم إلى ذلك تاريخ بلاد غيره وأحوالها، إذ بذلك يكون على بصيرة من الروابط المؤلفة بين الملل وبعضها، والأسباب التى توجب النزاع والوفاق بينها. ويعنى ذلك أن الآخر دائمًا كان حاضرًا فى مشروع على مبارك التنويري، فقد آمن بأن العزلة الحضارية والتقوقع الثقافى ليس فى مصلحة الأمة ولن يمكن الأذهان من التطور والانتقال من طور التقليد والشروح والحواشى إلى طور التصنيف والتأليف والإبداع.ويعول على مبارك كثيرًا على إرادة المتعلم فى اختيار المجال أو التخصص أو الحرفة التى سوف يقوم بها عقب تخرجه فى المدارس، مبينًا أن جمع المقررات الدراسية بين العلوم النظرية والعملية والأدبية والدينية والفنية تمكن الطالب من المفاضلة بينها تبعًا لميوله الشخصية.وعليه ينصح على مبارك أولياء الأمور بألا يختاروا لأبنائهم ما يجب فعله أو مجال دراسته متجاهلين استعداداتهم وميولهم واختياراتهم، فالواجب على الأبوين مساعدة الأبناء فى المفاضلة وليس إرغامهم على اختيار مجال بعينه. وقد أكد على مبارك على ضرورة تحديث نهوج تربية الطلاب بالقدر الذى يحافظ على استقلال شخصيتهم، وذلك بتنمية قدرتهم على النقد والاختيار والمفاضلة بين النقائض والنظائر، فالطالب الخانع عنده لن يستطيع التحرر من سلطة الموروث، فبالتالى لا أمل فى ثورته على الجمود ولا سبيل لإقناعه بأن خلاصه فى الحرية المسئولة التى هى وسط بين الاستسلام للتقليد ونقد الثوابت والتمرد على الأصول. ويختتم على مبارك حديثه عن منافع التعليم وآداب المتعلمين بذكر الأخلاق المهنية وشرف الرسالة التعليمية وغير ذلك من الفضائل التى يجب أن يلتزم بها المعلم والمتعلم، فالمدرسة هى مصنع الأجيال الذى يتخرج فيه المواطنون الأكفاء الذين يسعون لبناء أوطانهم وخدمة مجتمعهم، ويقول «عندما يكون الإنسان كثير الاجتهاد، متخلقًا بالأخلاق الحميدة، كان آمنًا على نفسه جميع عمره من عاهات الدهر وتقلبات الأيام، وإذا خرج عنها إلى أعماله وأشغاله يتقدم فى درجات الشرف، ويعد من أهل العدل بحسب صدقه واستقامته وحسن إدارته « وقد نجح على مبارك خلال تلك المسامرات فى توضيح فضل العلم وشرف مقاصده وآداب تحصيله وأخلاقيات تطبيقه.وللحديث بقية عن مسامرات على مبارك القصصية.
مشاركة :