من حروف العطف «ثم» التي تفيد الترتيب مع التراخي، ومنها حرف «الفاء» ويفيد العطف والترتيب والتعقيب؛ أي أنه ليس هناك زمن بين العطف والمعطوف عليه، ومنها كذلك حرف «الواو»، واختيارنا لحرف العطف «الفاء» في العنوان لأنه أنسب حروف العطف للدلالة على الغاية التي نقصدها ونتوخاها، والمسلمون اليوم أحوج ما يكونون إلى كل ما يبعث على المبادرة والنشاط حتى إن كنا نتلمسه في حرف من حروف اللغة العربية لأنه أكثر دلالة من غيره من الحروف، ولهذا جاء العنوان كالتالي: «الإسلام.. يقظة فنهضة فحضارة!!» ويلاحظ في العنوان أنني لم أستخدم الفواصل بين الكلمات التي جاءت في العنوان حرصًا على ألا يشغلنا عن غايتنا شاغل حتى ولو كان حرفًا واحدًا أو معنى من المعاني! والآن نعود إلى حديثنا عن الحضارة الإسلامية وصلاحيتها للنهوض من جديد، وأن بذورها الحية قابلة للإنبات من جديد على خلاف الحضارات الأخرى التي سبقت حضارة الإسلام أو جاءت بعدها. الحضارة الإسلامية تملك الأسس المكينة والراسخة التي تؤهلها لأن تنهض من جديد بنفس القوة التي كانت عليها في بداية انطلاقة الإسلام المظفرة للغزو المشروع الذي قام به المسلمون حيث فتحوا القلوب لدعوة الحق قبل أن يفتحوا البلاد. الحضارة الإسلامية هي أيضًا حضارة حية صالحة للنهوض من جديد، وبذورها صالحة للإنبات من جديد والنمو حتى تتحول شجرتها إلى دوحة عظيمة كثيرة الأغصان دانية القطوف، وشريعتها تنتظم جميع مناحي الحياة. والحضارة الإسلامية كذلك هي الحضارة الوحيدة التي تبقى في البلاد المفتوحة حتى بعد أن يذهب سلطان الإسلام السياسي عن هذه البلاد لأنها قامت وتواصل مسيرتها المباركة وفق قيم عظيمة، وأخلاق حسنة حتى مع خصومها، وها هو رسول الإسلام العظيم (صلى الله عليه وسلم) يعلنها واضحة كفلق الفجر الصادق: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق» الإمام مالك، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: «إن من أحبكم إلي، وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقًا. وإن أبغضكم إلي، وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون» رواه الترمذي وقال: حديث حسن. إذن، حضارة تقوم على القيم ومحاسن الأخلاق والمبادئ السامية هي بلا شك حضارة قادرة على النهوض من جديد بنفس القوة التي كانت عليها لأن الأسس التي نشأت عليها لا تزال تملك نفس القوة وربما أشد في عصر سادت فيه الخلاعة، وفسدت فيه القيم والأخلاق، ومن أهم الأسباب التي تعين على نهوض الحضارة الإسلامية من جديد حاجة البشرية إلى مثل هذه الحضارة الأخلاقية. لقد جاء الإسلام ليحرر العقول قبل الأبدان جاء كما قال الصحابي الجليل ربعي ابن عامر لرستم قائد الفرس عندما سأله: ما الذي جاء بكم إلينا؟ قال له ربعي: إن الله تعالى ابتعثنا والله تعالى أمرنا أن نخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. جاء الإسلام ليعيد صياغة الإنسان من جديد وفق مفاهيمه وقيمه الراقية لهذا يحاول الغرب ومن يشايعه من أنظمة الشرق الشيوعي تأخير يقظته، وتعويق نهضته، وإفساد حضارته بالغزو الفكري الدخيل، ولكنهم هيهات أن يقدروا على ذلك بعد العهود التي قطعها الحق سبحانه وتعالى على ذاته العلية في أن تظل أنواره الربانية تنير الوجود كله، وأن دينه سوف يظهر على الدين كله، قال تعالى: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33))التوبة. هم يخشون يقظة الإسلام، ويخشون نهضة الإسلام من جديد، ويخشون الإسلام في حضارته التي عاشت البشرية في ظل عدلها ووسطيتها وأمنها، والبشرية لا تزال تحلم بأن يعود عصر هذه الحضارة التي تنكر ذاتها، وتنصف الآخرين في تعاملاتها من نفس أتباعها. ما نقوله هنا ليس شهادة نسوقها نحن المسلمين في حق حضارة الإسلام، فشهادتنا عند خصوم الإسلام مجروحة، ولكننا ننقل إلى القراء شهادة خصوم الإسلام، والذين لا يمكن أن يتهمهم أحد بأنهم موالون للإسلام أو متعصبون له أو لأهله. نقل إلينا المفكر الجزائري مالك بن نبي في كتابه «نداء الإسلام» شهادة أحد الساسة الأوروبيين الذي تحدث عن الأسباب التي تجعل الغرب يخشى الإسلام ويحاربه، وخاصة وهم يرون كبار العلماء والمفكرين الغربيين يتوافدون على الإسلام ليعلنوا إسلامهم وولاءهم له، والشهادة كما نقلها صاحب كتاب «نداء الإسلام » قال أحد كبار المسؤولين الفرنسيين في شهر حزيران سنة 1957م: « ليست الشيوعية خطرًا على أوروبا فيما يبدو لي، فهي حلقة لاحقة لحلقات، وإذا كان هناك خطر فهو سياسي وعسكري فقط، ولكنه ليس خطرًا حضاريًا قد تتعرض معه مقومات وجودنا الفكري والفني والإنساني للزوال والفناء، أما الخطر الحقيقي الذي يهددنا تهديدًا مباشرًا عنيفًا فهو الخطر العربي، والعرب عالم مستقل كل الاستقلال عن عالمنا الغربي، فهم يملكون تراثهم الروحي الخاص، ويتمتعون بحضارة تاريخية ذات أصالة، وهم جديرون أن يقيموا بها قواعد عالم جديد من دون حاجة إلى الاستغراب أي إلى إذابة شخصيتهم الحضارية والروحية بصورة خاصة في الشخصية الحضارية الغربية، وفرصتهم في تحقيق أحلامهم هي في اكتساب التكنولوجيا الغربية، فإذا أصبح لهم علمهم، وإذا تهيأت لهم أسباب الإنتاج الصناعي في نطاقه الواسع انطلقوا في العالم يحملون تراثهم الحضاري الغني، وانتشروا في الأرض يزيلون منها قواعد الروح الغربية ورسالتها إلى التاريخ». هذه شهادة أحد الساسة الأوروبيين عن قدرة الحضارة الإسلامية على النهوض من جديد، وإعادة الدور التاريخي الذي لعبته هذه الحضارة في عهودها الزاهرة، والمسؤول الفرنسي لا يخوف العالم من أسلحة الدمار الشامل فالمسلمون، لا يملكون مثل هذه الأسلحة، ولكن العالم يخشى من الحضارة الإسلامية، ومن قدرتها على النهوض من جديد، وهي في هذا في غير حاجة إلى أسلحة ذات دمار شامل لأنها تمتلك ما هو أفضل من أسلحة الدمار، إنها تمتلك أسلحة ذات عمار دائم وشامل. لديها القرآن العظيم، ولديها القيم الأخلاقية العليا، والمبادئ السامية، إنها الحضارة التي تتسم بالوسطية، وهذه صفة لا تحظى بها حضارة من حضارات العالم، وهذه الحضارة تسعى إلى إعمار الأرض، وإشاعة العدل بين الناس، وهي أول من وضع أسس المواطنة من خلال صحيفة المدينة عندما ساوى الرسول (صلى الله عليه وسلم) في المواطنة بين مكونات المجتمع المسلم في الحقوق والواجبات بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية. إذن، الغرب يخشى يقظة الإسلام كما يخشى نهضته، والتي سوف تتحقق إذا تيسرت لها التكنولوجيا الغربية، وأصبح للمسلمين علمهم، وتهيأت لهم أسباب الإنتاج الصناعي في نطاقه الواسعة وحملوا معهم في انطلاقتهم هذه تراثهم الحضاري الغني، إذا توفرت لهم هذه الأسباب، فإن عودة الحضارة الإسلامية من جديد تصبح أمرًا ميسورا، وهذا ما يخيف أوروبا إلى حد الرعب، وخاصة وهم يرون انتشار الإسلام بين أممهم، وبالأخص بين النخب من مفكريهم من أمثال: روجيه جارودي، وموريس بوكاي، ومراد هوفمان، ولاري كنج، وغيرهم كثير من الذين عثروا على ضالتهم في الإسلام من بعد بحث طويل ودؤوب. إذن، الإسلام.. يقظة فنهضة فحضارة!!
مشاركة :