جـــاسينــدا أرديرن .. امــرأة نيـوزيلنـدا الـقـويــة

  • 3/31/2019
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

بقلــم: د. أمينـة الجـابـــر .. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، المبعوث رحمة للعالمين، ولترسيخ قواعد الأخلاق الإنسانية إلى يوم الدين بقوله «إنما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق»، والداعي في أقواله وأفعاله (صلى الله عليه وسلم) إلى اعتبار النساء شقائق الرجال، والقائل في آخر وصاياه «استوصوا بالنساء خيرا»، مُحرّر المرأة الأول والآخر من ربقة الجاهلية القديمة والحديثة إلى يوم الدين ... وبعد ... فإن ما حدث في يوم الجمعة 15/‏3/‏2019 من اعتداء وحشي على المُصلين الركّع السجود الآمنين في المسجدين وقتلهم بهذه الطريقة البشعة أدمى القلوب وحيّر العقول، ولكننا نقول، وقولنا مُغلّف بالأسى والحزن العميق: لعله خير، إيماناً بقول الله تعالى «فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا»، فقد تكون هذه الدماء الطاهرة الزكية طريقاً لنشر الإسلام الذي يُحارَب حتى من جهلاء المُنتسبين إليه، فضلاً عن الحاقدين عليه بعز عزيز أو بذل ذليل، كما بشّرنا بذلك نبينا الكريم (صلى الله عليه وسلم) بقوله: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر» رواه الإمام أحمد وغيره من حديث تميم بن أوس الداري، وقال: «إن الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر»، وهذان الحديثان يُعدان من البشائر والمُعجزات النبوية، ففيهما البشارة العظمى والنذارة الكبرى، بشارة عظمى لأهل الإسلام، ونذارة كبرى لمن عارضه وظن أنه سيكون مانعاً من ظهوره بعد أن قضى الله وحكم أن الظهور لهذا الدين والبقاء له بأمر رب العالمين، وما حدث في تلك الجمعة المُباركة من قتل شنيع لأولئك الركّع السُجود التالين لكتاب الله تعالى نحسبه من حُسن الخاتمة لهم ولا نزكّي على الله أحداً وأن يتقبّلهم الله في الشهداء عنده وما ذلك على الله ببعيد، وما هذه الهبّة الصادقة من الحكومة والشعب إلا وسيلة من وسائل تحقيق هذه البشارات النبويّة ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون. - فقد سطّرت السيدة جاسيندا أرديرن رئيسة وزراء نيوزيلندا تاريخها بمداد من ذهب حين وقفت هذه الوقفة الشجاعة في وجه الإرهاب الحاقد والاعتداء الظالم على مجموعة من البشر المسلمين والمُسالمين وهم بين راكع وساجد ومُتعبّد لله في بيت من بيوت الله في بلد آمن من بلاد الله كفل لسكانه جميعاً ممن يعيشون على أرضه الطيّبة حريّة العبادة والعيش الكريم، بغض النظر عن أجناسهم وأعراقهم ودياناتهم ما داموا يُحافظون على حقوق وواجبات المُواطنة الصالحة في هذا الوطن. لقد ضربت السيدة جاسيندا أروع الأمثلة للقيادة النسائية العادلة والحازمة والصادقة مع مبادئها وقيمها التي تؤمن بها قولاً وعملاً، فتحرّكت سريعاً لإخماد هذه الفتنة التي حاول إشعالها حقود كؤود وأطفأتها ببراعة وسرعة بديهة تنم عن عاطفة مُحبّة لمجتمعها وعقل ناضج واعً بنتائج مثل هذه الأفعال الذميمة فوأدتها في مهدها حتى لا تأتي على إنجازات هذا البلد المُسالم الآمن المُطمئن، فكان لها ما أرادت بفضل حكمتها وتعاون المجتمع بكافة أطيافه معها، فكانت وقفة صادقة مُخلصة للوطن ومُكتسباته ومن يعيش على أرضه، وكما قيل: «كيفما تكونوا يول عليكم»، وقد كانت مُخلصة في تحرّكها ومحبّتها لمجتمعها وبلدها، فكان الشعب بأسره معها، وقد صدق الشاعر حين قال: ولو كان النساء كمن عرفنا لفُضّلت النساء على الرجال فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التـــذكير فخر للهـــلال ولكن: من هي هذه المرأة الشابة القوية: - إنها السيدة جاسيندا أرديرن رئيسة وزراء نيوزيلندا المولودة في العام 1980م وهي أصغر امرأة تتولى منصب رئاسة الوزراء بعد أن حقق حزبها الفوز في الانتخابات العام الماضي بعد غياب دام لأكثر من عشر سنوات عن السلطة رغم أنه لم يكن قد مضى على انتخابها رئيسة للحزب سوى سبعة أسابيع. - وهي أول سيدة في تاريخ البلاد تتولى هذا المنصب منذ عام 1997م وأصغر رئيسة وزراء منذ 150 عاماً، تخرّجت من جامعة ويكاتو عام 2001م، ثم عملت باحثة في مكتب رئيسة الوزراء السابقة هيلين كلارك، فمستشارة سياسات لدى رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، وانتخبت عام 2015م رئيسة للاتحاد الدولي الاشتراكي للشباب، وفي مارس 2017م أصبحت نائبة رئيس حزب العمّال النيوزيلندي، وفي الأول من أغسطس من نفس العام 2017م تولّت زعامته، وبعد سبعة أسابيع فقط من ترؤسها للحزب وصلت لمنصب رئيسة الوزراء، وهي ثاني زعيمة منتخبة تلد وهي في السلطة والأولى منذ نحو 30 عاماً حين وضعت طفلها الأول في 21 يونيو 2018م وعادت إلى عملها بعد إجازة وضع استغرقت ستة أسابيع في أغسطس الماضي، وهي حاملة وليدها، فقد سبقتها في مجال الأمومة السيدة بنظير بوتو رئيسة وزراء باكستان حين وضعت طفلتها في عام 1990م لتصبح أول زعيمة منتخبة تلد وهي في السلطة. - وعند انتخابها أعلنت عدداً من السياسات النافعة لوطنها لعل أهمها: ـ تعزيز الجهود للتصدي للتغيير المناخي - الانتقال إلى اقتصاد منخفض الكربون - تحقيق التنمية الإقليمية ومُحاربة الفقر ـ الأولوية لإعادة تمويل الفطام ليشمل الجميع - ضمان عيش جميع المواطنين في منازل دافئة خالية من الرطوبة - اتخاذ جميع الإجراءات بشأن فقر الأطفال والتشرّد - تنظيف الأنهار ـ منع الأجانب من شراء المنازل في البلد - الحد من الهجرة عند مستوى 30 ألف شخص سنوياً ـ مُراجعة وإصلاح قانون البنك المركزي - إصلاح نظام الرعاية الاجتماعية ـ تقديم مساعدات مادية لأسر الأطفال ليتمكّنوا من دفع الإيجار ورعاية الصغار (وهي الخطة العُمَرية ـ نسبة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في رعاية أطفال المسلمين) ـ تمديد إجازة الأبوّة والأمومة المدفوعة من 18 ـ 26 أسبوعاً.. إلخ. - وقفت رئيسة وزراء نيوزيلندا وقفة إنسانية حازمة من الهجمات الإرهابية في 15 مارس 2019م على مسجدين للمسلمين في كريست تشرش أسفرت عن استشهاد 49 مسلماً وجرح 50 آخرين وهم يؤدون عبادة ربهم في يوم الجمعة ركعاً سجداً يقرؤون كتاب الله ينتظرون صلاة الجمعة، والذي يُعتبر من أكثر الهجمات دموية في نيوزيلندا منذ الحرب العالمية الثانية، هذه الوقفة الصادقة العادلة الإنسانية والتي يفتقدها الكثير من أشباه الرجال من قادة العالم الإسلامي أبهرت العالم لدرجة تهديدها في حياتها بأنها ستكون الهدف القادم للانتقام من الإرهابيين، لكن ذلك لم يُثنها عن وقفتها الإنسانية وحزمها للأمر قولاً وفعلاً، فقد كانت ردة فعلها السريعة العاطفية والإنسانية تارة والحازمة تارة أخرى محل إعجاب العالم بأسره. ومن أهم معالم هذه الوقفة الجريئة في وجه الطغيان الإرهابي الظالم أنها: ـ أظهرت تعاطفاً شديداً مع الأسر المُصابة والتواصل معهم تواصلاً إنسانياً فاق الوصف. ـ ظهرت مرتدية الحجاب الإسلامي في زيارة للجالية الإسلامية تعبيراً عن شدة ألمها لما أصابهم وتعاطفها معهم (وارتداء الحجاب ليس خاصاً بالمسلمات اللواتي يتبعن النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما يعتقد البعض وإنما هو اللباس الساتر لجميع النساء الصالحات قديماً من لدن سيدنا إبراهيم وموسى وعيسى إلى سيدنا محمد عليهم الصلاة والسلام، وقد تأكدت فرضيته في الدين الإٍسلامي لأنه الدين الخاتم الكامل والشامل فلا دين بعده ولا نبي بعد محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا كتاباً بعد القرآن الكريم، دستور الإسلام للإنسانية جمعاء إلى أن يرث الله الأرض ومن وما عليها ). ـ قرنت أفعالها بقولها: إن منفّذ الهجوم ليس منا. ورفضت تسميته ونسبته ليبقى نكرة بلا هوية أبد الدهر، مُطمئنة أسر الضحايا من الشهداء والجرحى والمسلمين أن حكومتها ستعمل على تعديل قوانين حيازة الأسلحة في البلاد. ـ تقديم الدعم المالي للأسر التي فقدت من يعولها في مشهد أسر العالم. ـ أمرت في الجمعة التالية للاعتداء رفع الأذان في كافة أرض نيوزيلندا وحضور جمع غفير من أهل البلاد خطبة الجمعة التأبينية على أرواح الشهداء من الضحايا. ـ وضعت جميع النساء الخمار في كل أنحاء البلاد تضامناً مع المسلمين وحضرن الصلاة مع الجميع. ـ توافد الكثير من أبناء نيوزيلندا إلى المساجد والمراكز الإسلامية للتعرّف على الدين الإسلامي وسبب الاعتداء عليه في بلد آمن مطمئن متسامح. ـ بدأت خطابها لشعبها بحديث عظيم من أحاديث النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) باللغة العربية مستشهدة به قائلة: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» أخرجه البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير (رضى الله عنهما). - السيدة الجليلة: جاسيندا أرديرن رئيسة وزراء نيوزيلندا.. لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب ، نحسبك كذلك ولا نزكي على الله أحداً في محافظتك على مكاسب وطنك والحفاظ على لحمة النسيج الاجتماعي لبلدك، لقد نجحت في أول امتحان سياسي ونلت احتراماً وتقديراً داخلياً وخارجياً، كما قال الزعيم المسلم الطيب رجب أردوغان: «إن ردة الفعل والتعاطف التي أبدتهما رئيسة الوزراء في أعقاب الهجوم على المسجدين ينبغي أن يكون مثالاً يُحتذى به» صدق الطيب أردوغان في قوله وفعله وجزاه عن أمة محمد (صلى الله عليه وسلم ) خير الجزاء. - ولا ننسى الموقف الكريم من السيد وينستون بيترز، وزير خارجية نيوزيلندا كما ورد: أنه توعّد بتوقيع أقصى عقوبة ممكنة على منفّذ مذبحة المسجدين في مدينة كراس تشرتش، وقال في كلمته في ختام الاجتماع الطارئ لمنظمة التعاون الإسلامي باسطنبول: «إن مُنفذ المجزرة سيمضي بقية حياته معزولاً في سجن نيوزيلندي لضمان عدم وجود أي ثغرة في مُحاكمته، وقد بدأت الشرطة أوسع تحقيق لها في تاريخ بلادنا» وأضاف: «لا يمكن لأي عقوبة أن تناسب بشاعة جريمته ولكن ستتحقق العدالة لذوي الضحايا، كان هذا هجوماً يستهدف مسلمين بشكل مباشر أبرياء وقتلوا أثناء تأديتهم الصلاة في بلد يسود فيها التسامح الديني، يُعتبر الهجوم على واحد منا هجوماً علينا جميعاً»، وهذا مصداق قول الله تعالى «أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا» المائدة آية 32، وقال سبحانه: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا» النساء آية 93، وأحب أن أذكّر أن العقوبة لمثل هذه الجريمة هي القصاص، أي القتل، وليس السجن، قال تعالى: «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» البقرة آية 179 , وختاماً: باسمي وباسم جميع المسلمات في أرجاء الأرض قاطبة، نرفع إلى رئيسة وزراء نيوزيلندا ووزير خارجيتها وحكومتها وشعبها أسمى آيات التقدير والشكر والاحترام والامتنان على وقفتهم الرائعة مع إخواننا من المسلمين والمسلمات في بلدهم الطيب، فقد كنتم بلسماً طيباً داويتم من خلاله جروحهم الأليمة في فقدهم الأب والأخ والزوج والولد والصديق والجار والسند، فنعم المرأة أنت ونعم الزعيمة كنت ونعم الشعب أنتم، حفظكم الله ورعاكم وإلى الخير سدّد خطاكم وإلى الانتماء لأمة محمد (صلى الله عليه وسلم ) حيّاكم وبيّاكم، فقد حققتم نظرية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في مسؤولية الحاكم تجاه الرعية، (لوعثرت بغلة في العراق لسألني الله تعالى عنها لِمَ لَمْ تمهّد لها الطريق يا عمر)، التي تناساها زعماء المسلمين فاضطرت شعوبهم إلى التغرّب طلباً للمعيشة الطيّبة لهم ولأجيالهم، فحسبنا الله ونعم الوكيل فيهم ودماء هؤلاء الضحايا وغيرهم عالقة في ذمّتهم إلى يوم الدين وعند الله سبحانه يوم القيامة تجتمع الخصوم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مشاركة :