حان الوقت ليكون العرب يمينيينطارق القيزانيكيف يمكن صناعة يمين عربي خارج القوالب النمطية حتى يحمل لواء المصلحة العربية ويجعلها بوصلته كما هو حال اليمين الغربي الذي يجتاح العالم الديمقراطي الحر من أوروبا إلى أميركا الشمالية.لدى العرب كل المبررات الكافية وأكثر من الغرب أنفسهم حتى يكونوا كذلكالعالم العربي، ومنذ صعود حركات التحرر، ظل يتغنى بمبادئ الثورة الفرنسية وقيم عصر الأنوار كنموذج ملهم للكفاح ضد الاستعمار ونيل الحرية وبناء المجتمع التعاقدي والمؤسساتي.لكن طيلة عقود طويلة وبعد أن استتب الأمر للحكام الجدد في المنطقة العربية لا أحد كان يتحدث عن ردة الفرنسيين أنفسهم على قيم الثورة بعد سنوات قليلة من اندلاعها ودخولها تحت ما يمسى “بعهد الإرهاب” مع برتراند بارر وماكسميليان روبسبيير بحجة إنقاذ الثورة ضد الثورات المضادة، غير أن الأمر انتهى بكل بساطة بصعود العسكري الفذّ نابليون بحجة الإنقاذ أيضا ليرسم بداية الحكم الإمبراطوري.والأمر ذاته لا يختلف عن ارتداد العرب أنفسهم على التزامهم تجاه شعوبهم مع نيلهم للاستقلال منذ خمسينات القرن الماضي، لتبدأ على أنقاض حركات التحرر الانقلابات العسكرية والاغتيالات السياسية بالعراق وسوريا ومصر وليبيا وغيرها.جرّب العرب منذ تلك اللحظة كل صنوف الأيديولوجيات بصيغتها العربية، من اليسار الاشتراكي إلى القومية إلى تلوينات من الليبرالية والعلمانية لكن لا أحد كان يتحدث عن مفهوم اليمين السياسي أو الاستثمار في أفكار هذا الاتجاه.المفارقة أن فكرة اليمين ظهرت وبشكل سخيف، جنبا إلى جنب مع أفكار الثورة الفرنسية في مجلس الطبقات عام 1789 أثناء ترتيبات الجلوس، إذ اختار الإقطاعيون والنبلاء وأنصار الملكية والكنيسة الجلوس على يمين الملك في مقابل جلوس الليبراليين وممثلي العامة على يساره. لكن بخلاف أماكن الجلوس فإن تباين الأفكار والمطالب كان معبرا عن مواقعهم، وهو التباين الذي ظل راسخا بين الاتجاهين حتى اليوم.لكن الأمر السيء أن نقل الفكر اليميني الأوروبي الذي ظهر كخطاب مدافع عن مصالحه تجاه النظام الملكي ونفوذ الكنيسة والنظام الإقطاعي، لم يكن موفقا لأنه أصلا افتقد إلى ذات الأسباب الموضوعية والتاريخية لوجوده فجاء نسخة عربية مشوهة وبلا بوصلة.أصبح اليمين العربي مرادفا للراديكالية الإسلامية حينا ولأنظمة الحكم العسكرية أحيانا أخرى أو حكم الحزب الواحد الشمولي، وهي تعريفات مغشوشة ولا تتفق مع التعريف الأصلي لليمين والظروف المرافقة لنشأته وتطوره في أوروبا.في حين تطور الفكر اليميني الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية وفترة البناء الاقتصادي، ليبدأ الاشتغال على الهوية المسيحية والاندماج والهجرة والنزعات الحمائية فإن اليمين العربي، وعلى خلاف اليسار وتفريعاته، ظل حتى اللحظة بلا تعريف دقيق وواضح وبلا اتجاه.كيف يمكن صناعة يمين عربي خارج القوالب النمطية حتى يحمل لواء المصلحة العربية ويجعلها بوصلته كما هو حال اليمين الغربي الذي يجتاح العالم الديمقراطي الحر من أوروبا إلى أميركا الشمالية، وحتى تلك المجتمعات التي تمثل فيها الهجرة رافدا أساسيا للنمو الديموغرافي والاقتصادي مثل ألمانيا والولايات المتحدة والكيبك الكندية.العرب في السياق الحالي، كدول تتطلع في أغلبها إلى أنظمة حكم ذات خصوصية بعد تجربة الربيع العربي القاتمة في مجملها، تبدو الأقرب والأحوج إلى اليمين من الغرب. ليس اليمين التقليدي المرتد إلى الأصولية الدينية والقبلية ودفاعه على الأنظمة الراهنة والمحافظة ولكن اليمين المدافع عن مصالح الدولة والأمة والشعب في سياقها الدولي الجديد.هناك اعتراف علني من داخل الجامعة العربية اليوم أن هذا الهيكل العربي المتقادم يحتاج فعليا لآليات جديدة حتى يعمل ويتحرر ويلغي آلية الإجماع الفضفاضة وغير الفعالة في الدفاع عن مصالح العرب، ولكنها قد تحتاج أيضا إلى فكر سياسي مغاير لمقارعة التحديات الخطيرة التي تحيط بها. لن يكون فكرا قوميا عاطفيا أو يساريا حالما ولكن فكر يستطيع أن يفرض توازنا في علاقاته بالآخر.يتعين على العرب مثلا أن يكونوا يمينيين جدا في الدفاع المشترك عن حدود أراضيهم والسيادة عليها واستخدام موقعهم الجغرافي وثرواتهم الطبيعية وغير الطبيعية وأسواقهم الاستهلاكية، كأسلحة ضغط دائمة. يتعين عليهم الرد بإجراءات مماثلة في ما يرتبط بالقيود الغربية على حرية التنقل والنزعات الاقتصادية الحمائية وأن يضعوا شروطهم الكاملة وأوراقهم الرابحة مقابل التعاون في ملفات الهجرة والأمن ومكافحة الإرهاب.لقد نالت الأحزاب اليمينية في أوروبا كرابطة الشمال الإيطالية والحرية الهولندي والجبهة الوطنية في فرنسا أو البديل في ألمانيا، ثقة حيز كبير من المواطنين بعد سنوات من العزلة، لأنها اشتغلت على مطالب وطنية وحيوية، مثل الثروة والحدود والأرض والهوية وخطر الهجرة غير المقيدة. ومع أنها لم تستحوذ بشكل كامل على الحكم في أرجاء أوروبا إلا أنها نجحت في أن تعدل مسار الحكومات الرئيسية في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وأن تتحول إلى فكر بذاته اخترق مناطق أخرى في العالم.لن يخسر السياسيون العرب أكثر مما خسروه منذ منتصف القرن الماضي، قد يكون الحل في أن يكونوا يمينيين أيضا مثل الغرب. فلدى العرب كل المبررات الكافية وأكثر من الغرب أنفسهم حتى يكونوا كذلك.صحافي تونسي
مشاركة :