التاريخ المكتوب يقول إن العالم مقسوم دائماً، ودرسنا صغاراً عن الإغريق والرومان، بل عن أثينا واسبارطة داخل اليونان نفسها. وعشنا لنرى العالم مقسوماً بين المعسكر الاشتراكي (الشرقي) والمعسكر الرأسمالي (الغربي)، أو بين حلفَيْ وارسو والناتو. الشيوعية سقطت، وروسيا الآن تكاد تنافس السعودية في إنتاج النفط، والصين تكاد تلحق بالولايات المتحدة في «البزنس»، ولا بد أن تسبقها قريباً. مع هذا وذاك، كان هناك العالم الأول والعالم الثالث (والثلاثون). المعسكر الاشتراكي كان يُفترض أن يحمل صفة العالم الثاني، إلا أنه رفضها ولم تُستَعمَل. بعد سقوط الشيوعية غابت القسمة بين شرق وغرب وأصبحنا نسمع عن شمال (ثري) وجنوب (فقير)، ثم بدأت القسمة تتآكل ودول في الجنوب مثل البرازيل والأرجنتين والهند تلحق بالركب. اليوم هناك قسمة جديدة: دول يُهاجَر منها ودول يهاجر إليها. غرقت سفينة تقل مهاجرين لبنانيين غير شرعيين إلى أستراليا، وتبعها غرق سفينة المهاجرين غير الشرعيين قرب جزيرة إيطالية وموت مئات منهم. العالم كله تقدم إلا نحن. في القرآن الكريم «قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون». مضى زمن كنا نعلم ونصدِّر العلم، واليوم نتعلم من الآخرين، وبعضنا يرفض العلم ولعله يعتبره بدعة. اليوم الكل يهاجر، أو إذا شئنا الدقة كل قادر على الهجرة يهاجر، من مصر والعراق وسورية ولبنان والمغرب العربي. قبل قرن كان اللبناني يهاجر وهو ينوي العودة إلى بلاده، وكان العربي في كل بلد يهاجر إلى مصر لينجح، فنجاحه في بلده لا يكفي من دون شهادة مصرية. كان السوداني يهاجر إلى مصر، واليوم أصبح في نصف بلد، والمصري يبحث عن بلد يهاجر إليه. وكان اليوناني أو الإيطالي يأتي للعمل في مصر طاهياً أو مجرد «جرسون» وأصبحنا نطلب الخدمة في بلادهم. اليوم اللبناني يهاجر ولا يريد العودة، والمصري ينافسه، ويختار بدل «أم الدنيا» كندا حيث فصل الشتاء عشرة شهور. بلاد الرافدين تصدِّر إلى العالم المهندسين والأطباء. الباقون من هؤلاء يُقتَلون. كم من أبناء المغرب والجزائر وتونس غرق في طريقه إلى أوروبا وهو يعرف أنها لا ترحب به؟ نحن أمة كانت سلة غلال العالم، والآن تستورد القمح والذرة والرز وكل طعام آخر. سلّمنا كل ما نعرف إلى أوروبا لتخرج من عصور الظلام إلى عصر النهضة، ونمنا. نحن أمة تصدِّر البشر. تصدر بشراً حصلوا على تعليم عالٍ أو نجحوا في التجارة وعندهم القدرة على الهجرة طلباً للأفضل، أو تصدر شباباً يريدون حياة أفضل. ومَنْ يبقى في البلد؟ البضاعة الكاسدة من أميين وفقراء ومساكين... والمرشد. «كنتم خير أمة أخرجت للناس». والآن كيف أصبحتم؟ آخر أمة. كنا نسمي آخر طالب في الصف «الطّش»، والآن الأمة كلها «الطش» في موكب الأمم. لست من عمر أذكر معه الاستعمار، ولكن كبرت على رواياته من الجد والأب والعم والخال. كانت روايات رهيبة في زمانها، وما كنا نتصور أن نرى أسوأ منها. «ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعمار». هل أقول «اخفض رأسك يا أخي فأنت في عهد الاستقلال؟» هل أطالب بعودة الاستعمار؟ لا أفعل وإنما أقول إن المستعمِر كان غريباً عنا والآن لنا عدو، أو أعداء، من أنفسنا. رحمتك يا رب. khazen@alhayat.com
مشاركة :