المثير للقلق في ما يتصل بالجماعات الإرهابية، أنها في الغالب المبادرة بفعلها الإجرامي، على اختلاف صوره، ومظاهره الشنيعة، ثم تأتي على إثر ذلك ردة الفعل بصورة متقطعة، كما لو كانت حالة «انتقام»، أو حصة «تأديب»، تؤدي مهمتها الآنية في عجلة، وتعود إلى حالة السكون انتظارا لفعل أكثر فظاعة، لتعود ردة الفعل بذات الأسلوب. ولعل في ما حدث للطيار الأردني «معاذ الكساسبة»، ثم لأخواننا الأقباط المصريين، وما تبع ذلك من ردة فعل بدت حالة انتقام عابرة، وسورة تأديب منقطعة، وفقا لما هو مشاهد على أرض الواقع، وهذا أمر مفهوم، طالما بقيت محاربة الإرهاب رهنا بالمجهودات الفردية، حسب قدرة كل دولة، وليست عملا منظما، على اعتبار أن هذه الظاهرة لم تعد تعني مجتمعا دون آخر، ولا دولة دون أخرى، بل أصبحت خطرا يهدد الإنسانية كلها، وبالذات خطرا يهدد العالمين العربي والإسلامي، على اعتبار أنهما المسرح المفتوح لنمو هذه الظاهرة، سواء بمغذيات من داخل البيت العربي والإسلامي أو من خارجه، لا فرق مادامت المحصلة واحدة، وهي نمو وتصاعد هذا السرطان المقيت. ولعل المملكة العربية السعودية، بحكمة ونفاذ بصيرة قيادتها الحكيمة، دعت العالم كافة، إلى تحديد استراتيجية واضحة حيال هذه الظاهرة، فلو أن الاستجابة كانت على قدر النداء والتحذير، لكان ذلك كفيلا بأن يجعل الفعل بيد الحملة المناهضة لهذه الفئة الآثمة، وأبقتها في مربـع ردة الفعل، خلافا لما هو الحال اليوم، حيث ظلت المملكة آخذة لواء السبق والمبادرة، وما فتئت تقرع أجراس الخطر، فقد ظل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله ــ يرحمه الله ــ إلى آخر لحظات عمره يرسل رسائل التنبيه، ويرفع الصوت بالنداء، مستنكرا هذا الصمت، وتلك الغفلة التي تعم العالم حيال هذا الخطر الماحق. وهو ذات النهج الذي سار عليه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان ــ حفظه الله ــ ، حيث جاءت كلمته في افتتاح المؤتمر العالمي الإسلام ومحاربة الإرهاب، الذي نظمته رابطة العالم الإسلامي، معمقة لدور المملكة، كاشفة لعوار هذه الفئة الباغية، مستحثة الجميع لوضع استراتيجية واضحة وملزمة لكل الأطراف لدحر الإرهاب، وإبادة محاضنه، حيث قال حفظه الله على لسان مستشاره الأمير خالد الفيصل: «إنكم لتجتمعون اليوم على أمر جلل يهدد أمتنا الإسلامية والعالم أجمع بعظيم الخطر جراء تغول الإرهاب المتأسلم بالقتل والغصب والنهب وألوان شتى من العدوان الآثم في كثير من الأرجاء، جاوزت جرائمه حدود عالمنا الإسلامي متمترسا براية الإسلام زورا وبهتانا وهو منه براء. فضلا عن الخسائر الفادحة في الأرواح وتقسيم الأوطان فإن الخطر الأعظم على أمتنا أن هؤلاء الإرهابيين الضالين المضلين قد أعطوا الفرصة للمغرضين المتربصين بالإسلام حتى في الدوائر التي شجعت هذا الإرهاب أو أغمضت عينها عنه، أن يطعنوا في ديننا القويم الحنيف ويتهموا أتباعه الذين يربو عددهم على المليار بجرم هذا الفصيل السفيه الذي لا يمثل الإسلام من قريب أو بعيد». إن هذا التوصيف لماهية الخطر المحدق كفيل بأن يستحث الهمم، ويفتح العيون المنصرفة إلى جوهر الأزمة، وحجم الداهية، فمن المدهش حقا أن تظل الدول العربية والإسلامية غافلة عن ذلك، وحسنا جاء هذا المؤتمر في أطهر بقاع الأرض، فمع التقدير لما تقوم به بعض الدول الغربية في محاربة الإرهاب، إلا أن العالمين العربي والإسلامي معنيان في المقام الأول بمحاربة هذه الظاهرة، على اعتبار أن هذه الفئة متسمية بالإسلام وهي منه براء، ومسرح فعلها الإجرامي في الأرض العربية والإسلامية، ولهذا فإنها وحدها قادرة على دحر هذه الفئة وتجفيف بؤر نشوئها متى ما كات هناك استراتيجية واضحة، وهدف معلوم، وعزيمة لا تعرف الخور، ولعل هذا ما أكدته كلمة خادم الحرمين الشريفين في المؤتمر حيث قال: «جاءت رعايتي لعقد هذا المؤتمر في إطار رابطة العالم الإسلامي لتشكيل منظومة إسلامية جماعية تتصدى لتشويه الإرهاب صورة الإسلام والمسلمين في العالم وتدرأ خطره العظيم على كيان أمتنا الإسلامية بل وعلى العالم أجمع؛ بوضع خطة استراتيجية فاعلة نلتزم بها جميعا لمكافحة هذا الداء الوبال الذي هو صنيعة الفكر المتطرف لهؤلاء الجهال والعملاء واستلاب ساحة الفتيا الشرعية من غير أهلها ولي عنق النصوص الأصيلة لخدمة أغراض أصحاب هذا الفكر الدنيوي وتهييج مشاعر النشء والعامة واستدرار عواطفهم الدينية بمبررات ما أنزل الله بها من سلطان». إن هذه الدعوة الصريحة لتأسيس فعل منضوٍ تحت استراتيجية واضحة، لا يحتمل الجلوس في مقاعد المتفرجين، ولا يقبل أي نوع من أنواع الحياد، وهو عين ما أشار إليه الملك سلمان، في تأكيد ثقته في مخرجات المؤتمر والتنبه على مغادرة مربـع الحياد إلى الفعل الإيجابي، حين قال: «أؤكد لكم أن أمتكم الإسلامية وكل شرفاء العالم على ثقة تامة بأن تصدر عن مؤتمركم الموقر نتائج عملية تعطي دفعا منظما وقويا للجهود المبذولة على مسار التصدي لهذه الظاهرة الدخيلة على عالمينا العربي والإسلامي، وتقطع الطريق على الذين يستغلون هذه الآفة لخدمة أغراضهم ومآربهم على حساب مصالح أمتنا وأمن شعوبها واستقرار دولها وازدهار أوطانها، وأن تؤسسوا لبرامج ومشاريـع تتعاون فيها إعدادا وإنجازا كافة الجهات الرسمية والشعبية في عالمنا الإسلامي تسهم في رفع مستوى الوعي لدى الأمة بأخطار الإرهاب وأضراره وبسلبيات التقاعس عن التصدي له أو اتخاذ مواقف حيادية منه، وبيان أن ذلك يطيل في عمره ويثقل كاهل الجهات القائمة على مواجهته، وأن على الجميع أفرادا ومؤسسات مضاعفة جهودهم في مواصلة مكافحة الإرهاب فكرا وسلوكا ومحاصرة الإرهابيين حيثما ثقفوا والتحذير من تقديم أي عون لهم أو أي من ألوان التعاطف معهم». إن من ثمار المؤتمر تأكيده على الدور الريادي والوعي المستبصر للمملكة وقيادتها الرشيدة، كما أنه أعاد الكرة إلى الملعب الأساسي، واستنهض الهمم التي ران عليها الاتكال وعلى غيرها في إنجاز فرض محاربة الإرهاب، فهذا المؤتمر أعاد الملف إلى حيث يجب أن يكون، بيد الأمة العربية والإسلامية، ولا يعني هذا مطلقا تحييد المجتمع العالمي في حملة القضاء على الإرهاب، ولكن ليكن مشاركا في ذلك، وفق الخطة الاستراتيجية التي تتفق عليها الأمتان العربية والإسلامية..
مشاركة :