تَمْضي المُخْرِجة اللبنانية الشهيرة نادين لبكي من نجاحٍ إلى نجاحٍ، في مسيرةٍ أوصلتْها هذه السنة لتكون أول امرأة عربية تترشّح للأوسكار عن فيلمها «كفرناحوم»، قبل أن يُعلَن أخيراً عن أنها ستترأس، وأيضاً كأول امرأة عربية، لجنة تحكيم فئة «نظرة ما» في الدورة 72 لمهرجان «كان» السينمائي (بين 14 و25 مايو المقبل) الذي كان منَحَها العام الماضي جائزة لجنة التحكيم عن «كفرناحوم». وبكثيرٍ من الاعتزاز والفخر، تتحدّث لبكي إلى «الراي» عن الجوائز والترشيحات التي حققها «كفرناحوم» بالرغم من عدم فوزها بالأوسكار (عن فئة أفضل فيلم أجنبي)، مؤكدة أنها تعمّدت اختيار شخصيات الفيلم من واقع الحياة، ومشيرة إلى أن محاكمة بطل الفيلم لأهله «رمزية وتختزل أسماء جميع الأطفال الذين يجب أن يطالبوا ذويهم بأبسط الحقوق»، وموضحةً أنها كانت أصدرت أحكاماً مسبقة على أمهات أهملن حقوق أطفالهن، ولكن ما اكتشفتُه بعدما تعمّقتُ أكثر بظروفهنّ وقصصهن كان أشبه «بصفعة على وجهي». • ما شعورك بعد اختيارك لترؤس لجنة تحكيم فئة «نظرة ما» للدورة 72 لمهرجان «كان» السينمائي الدولي؟- عندما تم إعلان الخبر تذكرتُ عندما قصدتُ «كان» كطالِبة، ويومها حرصتُ بشكل كبير على اكتشاف أكثر المهرجانات شهرة في العالم. في ذلك الوقت، بدا لي هذا العالم بعيد المنال. يومها كنتُ أستيقظ في الصباح الباكر وأقف بالطابور وقوائم الانتظار التي لا نهاية لها للحصول على تذكرة، أما اليوم، فأنا رئيسة لجنة تحكيم في المهرجان عن فئة «نظرةٍ ما». الحياة تعطينا أحياناً أشياء أكثر جمالاً من الأحلام، وأنا أتطلع لاكتشاف الأفلام المشارِكة والنقاشات مع أعضاء لجنة التحكيم وتَبادُل الخبرات، وإيجاد مصدر إلهامٍ في اكتشاف أعمال الفنانين الآخرين.• اللافت في «كفرناحوم» حرصك على أن تكون شخصياته واقعية، بمعنى أن كل مَن ظهر على الشاشة وشارك في التمثيل، هم أشخاص نقلوا معاناتهم وواقعهم المأسوي عبرها. فهل تعمّدتِ ذلك، كما فعلتِ مثلاً مع شخصية «رحيل» العاملة الإثيوبية؟- طبعاً تعمّدتُ ذلك. وبالنسبة إلى «رحيل» تحديداً، أردتُ أن تكون البطلة امرأة ذات بشرة سمراء. وفي لبنان، هناك الكثير من الفتيات مثلها من اللواتي يتركن أطفالهن ويذهبن ليعملن لمصلحة عوائل أخرى ويصبحن غير مرئيات، بل ومجبراتٍ على الانسلاخ من أي عاطفة، وحتى من حق الحب، وسرعان ما يقعنّ ضحيةً للعنصرية أو يجدن ألوان المعاملة السيئة من الأشخاص الذين يعملن لديهم، والذين لا يعتبرونهنّ موظّفات لهن حقوقهن، فقط لأنهن يتحدّرن من عرقٍ مختلف. لا يُسمح لهنّ بالإنجاب أو بأن يُظْهِرن حبهنّ لأطفالهنّ.وبالعودة إلى الفيلم، في المَشهد الذي يدور في بيت المحامي (الذي يُضطر فيه هاروت لأن يتظاهر بأنه استغنى عن رحيل من أجل موظّفة فيلبينية ستُضفي على العائلة مكانة أعلى) يجسّد هذا المشهد عدم اتساق هذا النظام الذي لا يكتفي فقط باعتبار هؤلاء النسوة غرضاً يُباع ويشترى، بل ويصنّفهم أيضاً. لقد تمثّلتْ رغبتي، لهذا السبب، في الاحتفاء بهؤلاء النسوة كما يستحققن.• ما أوجه الشبه بين الفيلم وبين ما حَدَثَ في الواقع؟- كان هناك عدد من نقاط التقاطُع، وهو ما جعل هذه المغامرة تعبق بسحرٍ جميل. أولاً، في اليوم الذي صوّرنا فيه المَشهد الذي تُعتقل فيه رحيل في مقهى الإنترنت، حدث أن اعتُقلت حقاً لعدم امتلاكها لأي وثائق. كان الأمر أقرب إلى المستحيل. عندما تبدأ بالبكاء وهي تُلقى في السجن، كانت الدموع التي تسيل من عينيها دموعاً حقيقية، فقد عانت من هذه التجربة فعلياً وقاست آلامها. وكذلك الأمر بالنسبة إلى يوناس التي اعتُقل والداها خلال تصوير الفيلم. الفتاة الصغيرة التي لعبت دورها (واسمها تريجر) اضطرت للعيش مع مسؤولة اختيار الممثلين لثلاثة أسابيع كاملة. وطبعاً منحتْ كل هذه اللحظات التي تَداخَلَ فيها الواقع مع الخيال صدقيةً كبيرةً للفيلم.• يتناول الفيلم أيضاً مسألة اللاجئين. هل كان موضوع اللجوء مهماً بالنسبة إليك؟- تناولنا هذه القضية من خلال شخصية ميسون في الفيلم. كان من المهم أن نتحدّث عن تلك القصة عبر الأطفال الذين تزخر مخيّلاتهم بالرحلات الواعدة الذين لا يعرفون عنها شيئاً. هؤلاء الأطفال الذين يعيشون حياة قاسية وصعبة رغماً عنهم.• كيف تردين على مَن يعتبر أن فكرة محاكمة الطفل زين غير واقعية؟- محاكمة زين لأهله هي رمزية تختزل أسماء جميع الأطفال الذين يجب أن يطالبوا ذويهم بأبسط الحقوق. هم لم يختاروا أن يولدوا وأن يأتوا إلى الحياة، ومن حقهم على الأقل أن ينعموا بالحب. أردتُ أن تحمل المحاكمة حسّاً من الواقعية عبر تدخل كاميرات التلفزيون ووسائل الإعلام المختلفة التي تساعد زين في أن يأخذ قضيته إلى المحكمة.• ما السبب الذي دفعك إلى جمْع شخصيات الفيلم كافة في قاعة المحكمة؟- كانت فكرة قاعة المحكمة ضروريةً لإضفاء الصدقية للدفاع عن مجتمع كامل. فكانت جلسة الاستماع هذه أشبه بمنصة لأصواتهم المقموعة والمهملة، أملاً في أن تصل أخيراً إلى الآذان. ولهذا طلبتُ من أم زين، عندما كان عليها أن تدافع عن نفسها أمام القاضي، أن تفعل ما كان يجب عليها أن تفعله في حال طُلب منها حقاً أن تدافع عن قضيتها أمام قاضٍ في الحقيقة. فهي عبّرت عن نفسها بصفتها كوثر (اسم شخصيتها في الفيلم)، ما أتاح أمامها الفرصة لأن تعبّر عما كان يقيّدها طوال حياتها. كما أننا قمنا بتنفيذ فكرة المحكمة كي تضعنا أمام فشلنا وعجزنا عن القيام بأي شيءٍ في وجه مستنقع الفقر الذي بات العالم يسقط فيه.• ولكن ألا يعني ذلك أنك أجبرتِ الناس والمجتمع على ارتداء عباءة القاضي؟- على العكس تماماً. الشيء الوحيد الذي أجبرتْنا عليه المحكمة، هو أن نرى ونسمع وجهات النظر والآراء المختلفة. فنحن نلوم الأهل في البداية، ومن ثم نسامحهم. وقد استوحيتُ وجهة النظر تلك من تجربتي الخاصة، فأنا عندما قابلتُ أمهاتٍ أهملن حقوق أطفالهن، وجدتُ نفسي أُصْدِر أحكامي عليهنّ، ولكن بعدما تعمّقتُ أكثر بظروفهن وقصصهنّ، والجحيم الذي عشن فيه، والجهل والحماقات التي أدّت بهن إلى إلحاق الظلم بأطفالهن على هذا النحو المخيف، فإن ما اكتشفتُه كان أشبه بصفعة على وجهي، ووقتَها تساءلتُ: «كيف لي أن أسمح لنفسي بأن أكره هؤلاء الأمهات أو أطلق أحكامي عليهن، وأنا لا أعرف شيئاً عن تجاربهن أو واقعهن اليومي؟».• هل شعرتِ بالحزن لأن فيلم «كفرناحوم» لم يفز بالأوسكار؟- بل أنا سعيدة جداً لأن فيلم «كفرناحوم» شارك في عدد كبير من المهرجانات حول العالم وحصد الكثير من الجوائز، بالإضافة إلى ترشيحه للعديد من الجوائز المرموقة وصولاً إلى الأوسكار.• قابلتِ الكثير من المشاهير قبل وعلى هامش حفل توزيع جوائز «الأوسكار»، وقمتِ بزيارةِ لافتة للإعلامية العالمية أوبرا وينفري التي أعربتْ عن إعجابها بالفيلم ودعْمها له. كيف كان شعورك في تلك اللحظات وكيف سيتبلور دعم «أوبرا»؟- شعرتُ بفخر كبير عندما قابلتُ المشاهير، كما إنني كنتُ سعيدةً وفخورة بزيارة الإعلامية الكبيرة أوبرا وينفري التي وعدتْ بدعم قضية الفيلم إنسانياً.
مشاركة :