صنع الله إبراهيم.. رواية "الجليد" بلغة أهله

  • 3/9/2015
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

أصدر المستعرب ريشار جاكمون مؤخرا الترجمة الفرنسية لرواية المصري صنع الله إبراهيم الجليد ضمن سلسلة سندباد التي خصصتها دار آكت سيد الباريسية منذ أكثر من أربعين عاما للتعريف بالتراث الشرقي وللاحتفاء بالإبداعات العربية الحديثة والمعاصرة. مقارنة بغيرها من الأعمال، يمكننا الجزم بأن رواية الجليد لم تقف في صف الانتظار طويلا، فقد وجدت طريقها إلى الترجمة في زمن قياسي وهي التي نُشرت في نسختها العربية منذ أربع سنوات فقط (2011)، زمن قياسي يستدعي منا وقفة مع مسار صنع الله إبراهيم الإبداعي وإشادة بمنتجه الأدبي الذي ارتقى عن جدارة إلى مصاف العالمية. الرجل الذي أكل نفسه في الشعر، غالبا ما يتحدث النقاد عن بيت القصيد، أي عن ذلك الموطن الذي يمثل ذروة النص وأرقى تَـجَـلٍّ من تجلياته الإبداعية. ولفرط الولع به أباح النقاد للقراء أن يُغفلوا قصائد بأكملها، ولكنهم لم يغفروا لهم أبدا نسيان مركز ثقلها الجمالي، إلى درجة أضحى معها بيت القصيد أهم بكثير من القصيد نفسه! وإذا أجزنا لأنفسنا أن نُـجْـرِيَ معايير الشعر على السرد (بالرغم مما بينهما من فروق نوعية) فإن نقاد الرواية -في تقديرنا- لن يغفروا أبـدا للمولعين بها نسيان هذا السطر عندئذ، رفعت يدي المصابة إلى فمي، وبدأت آكــل نفسي. سطر يتيم ولكنه عظيم، به اختتم صنع الله إبراهيم وقائع روايته الثانية اللجنة (1981)، ولا نبالغ إن قلنا إنه يمثل بيت القصيد فيها، أو بالأحرى لـب الحكاية، بل لـب حكايات صنع الله إبراهيم كلها، بدءا بروايته الأولى تلك الرائحة (نُشرت وصودِرت سنة 1966) انتهاء إلى أمريكنلي (2009) مرورا بـنجمة أغسطس (1974) وبيروت.. بيروت (1984)، وذات (1992)، والعمامة والقبعة (2008)، وغيرها. ففي مجمل هذه الأعمال -مع مراعاة ما بينها من فروق- نجد أنفسنا إزاء نفس الاستعارة الإنشائية السردية الكبرى، استعارة التردد بين الصمود والسقوط في عالم أقامه صاحبه على شفا حديْن متناقضَيْن: حد الواقعية التي تبلغ أحيانا مستوى التسجيلية المحض، وحد السريالية والفنتازم اللذين يجنحان بنا إلى ما وراء اللامعقول في سطوته وقسوته. ومن تماس هذين الحدين، تجاوز صنع الله إبراهيم منزلة الرجل الذي أكل نفسه حتى أصبح ينهشنا -نحن قراءه- وينهش العالم من حوله ومن حولنا بأداة خياله الرهيبة. ولعل في هذا، أو في بعضه ما يفسر إقدام دار آكت سيد الفرنسية على ترجمة رواية الجليد التي تعود بنا إلى عالم سنوات السبعين بين موسكو والقاهرة. جليد القاهرة.. حرارة موسكو! على سنة 1973، انفتحت أبواب رواية الجليد وعليها انغلقت. ولأن صنع الله إبراهيم يتقن فنون المخاتلة، ويجيد إثارة الخيال وتوتير المشاعر بدخوله البيوت من غير أبوابها، فقد ابتعد بشخصياته عن القاهرة وعن الشرق الأوسط كله، بالرغم من أن طبول الحرب كانت تصم الآذان في المنطقة آنذاك إيذانا باندلاع الحريق مطلع شهر أكتوبر/تشرين الأول. سحب صنع الله إبراهيم ستارا جليديا على الشرق الملتهب بالخطابات الحماسية والحديد والنار، وسار بقرائه خلف الدكتور شكري الأستاذ الجامعي المصري الذي انتقل إلى موسكو في نطاق التبادل الأكاديمي ليقضي ردحا من الزمن في عاصمة الجليد. وكما الشأن مع عصافير الشرق كلهم، بدءا بتوفيق الحكيم في عصفور من الشرق (1938)، مرورا بيحيى حقي في قنديل أم هاشم (1940)، والطيب صالح في موسم الهجرة إلى الشمال (1966) وغيرهم، فإن شكري بطل رواية الجليد لم يحـل بموسكو خالي الوفاض بل حمل معه التهاب أهل الشرق الفطري (أو بالأحرى لهيبهم النمطي المُنمّط) حتى أضحت موسكو الجليدية في نظره مجرد سعير من الاشتهاء الدائم، وتـوق محموم إلى إشباعٍ غريزي لا ينطفئ أُوَارُه، في ظل مجتمع يلامس البؤس الاشتراكي ويعاني انغلاق الفضاءات والأمكنة. ومع اندلاع حرب أكتوبر/تشرين الأول وبلوغ أصدائها إلى موسكو (رغم التشويش والتعتيم)، استوت الأضداد واستقامت المسألة. فقد ارتفع أخيرا ستار الجليد الذي أسدله شكري على الشرق وقضاياه وعاد الهاجس الوطني الجمعي إلى الصدارة بعدما ذاب في جليد موسكو. باريس أرض الاحتفاء بعيدا عن سنوات السبعين، عن موسكو عاصمة الصقيع التي التهبت بشهوانية أحد عصافير الشرق، وبعيدا عن القاهرة التي أسدل عليها نفسُ العصفور ستارا من جليد، خصت باريس جليد صنع الله إبراهيم بحفاوة بالغة سواء خلال اللقاء الذي احتضنته مكتبة ابن رشد، أو أثناء الحوار الذي أجرته معه قناة فرانس 24 الناطقة بالعربية أو جريدة لوموند في ملحقها الأدبي عالم الكتب. فمن خلال هذه الفعاليات المختلفة، خرق صنع الله إبراهيم جدار الصمت في سياق تعوّد الكثيرون فيه على حصر الثقافة العربية ضمن كليشيهات الإرهاب والتعصب والانغلاق على الذات. لقد كانت رواية الجليد لصنع الله إبراهيم في نسختها الفرنسية جمرة شرقية في صقيع الغرب... لا أكثر ولا أقل!

مشاركة :