"لا داعي للقلق" كانت هذه دعوة من وزير الاقتصاد التركي نهاد زيبكجي للتعامل مع الوضع المتدهور لليرة التركية. فقد هبطت العملة الوطنية إلى مستوى قياسي متدن مقابل الدولار، إلا أن من الواضح أن دعوة الوزير لم تحقق مبتغاها، بل لربما لم تجد صدى قويا داخل الأروقة الرسمية للدولة التركية ذاتها. خشية الحكومة التركية من الآثار السلبية لتراجع قيمة الليرة على الاستثمارات الدولية، دفع رئيس الوزراء داود أوغلو إلى التوجه لنيويورك، لعقد اجتماعات عاجلة مع كبار المستثمرين الدوليين، لطمأنتهم بأن الأوضاع الاقتصادية في بلاده مستقرة وقوية، وأن ما يحدث للعملة التركية كبوة ستتعافى منها سريعا. وأسفر الاجتماع عن حصول رئيس الوزراء على "تصريحات" إيجابية من عدد من كبار المستثمرين الدوليين، أبرزهم جون والدرون رئيس بنك جولدن ساش للاستثمار الذي صرح بأن تركيا "جذابة للاستثمار". لكن التصريحات قرئت من قبل بعض المحللين باعتبارها "غير كافية"، في ظل غياب تعهدات واضحة وصريحة من قبل رئيس "جولدن ساش" بالاستثمار في تركيا، بل قرأ البعض التصريحات باعتبارها محاولة لتجنب التزام قاطع من قبل البنك تجاه أنقرة، تحت مبرر صعوبة الاستثمار في ظل الوضع الإقليمي المضطرب. وقال لـ"الاقتصادية" المحلل الاقتصادي ريتشارد أليستر، إن الاقتصاد التركي لديه عديد من الفرص الاستثمارية الواعدة لكنه يرى أن المستثمرين الدوليين غير متحمسين حاليا لتركيا للعديد من العوامل. وأضاف "يلاحظ أن رئيس بنك جولدن ساش للاستثمار صرح بأن القضية ليست في تركيا بل في البلدان والمنطقة المحيطة بها، وأن القضية لا تتعلق بالأداء الاقتصادي التركي بقدر ما تتعلق بما يجري في محيط تركيا". وتوقف سعر صرف الليرة التركية عن التدهور أمس حتى أنه استعاد بعض خسائره أمام الدولار واليورو إثر قرار البنك المركزي التركي بخفض الفوائد على الودائع التي يتلقاها في هاتين العملتين من المصارف التجارية. وأعلن البنك المركزي التركي في بيان نقلته وكالة الأنباء الفرنسية "عملا بتطور سعر الفائدة، فإن المعدلات المطبقة على ودائع المصارف بالعملات الأجنبية لمدة أسبوع في البنك المركزي ستخفض من 7.5 في المائة إلى 4.5 في المائة للدولار ومن 6.5 في المائة إلى 2.5 في المائة لليورو اعتبارا من العاشر من آذار (مارس) 2015". وأدى هذا الإجراء إلى قفزة فورية في سعر صرف العملة التركية التي جرى تداولها على أساس 2.61 للدولار و2.84 لليورو. وكان تدهور قيمة الليرة التركية، قد دق ناقوس الخطر لدى مؤسسات استثمارية دولية كبرى بشأن إمكانية تعرضها لخسائر مالية إذا واصلت الاستثمار في الاقتصاد التركي. أبرز هؤلاء المستثمرين مجموعة "سيتي جروب" الأمريكية التي انسحبت من تركيا قبل الموعد الذي كانت تخطط له، وباعت حصتها في "Akbank TAS" رابع أكبر المصارف التركية في مجال الإقراض. وقد بلغت حصة المجموعة الأمريكية 10 في المائة قيمتها نحو 800 مليون دولار. وقال نائب رئيس قسم الأبحاث في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات والمحلل السابق لمكافحة الإرهاب في وزارة الخزانة الأمريكية، جوناثان سكانزير، لوسائل إعلام بريطانية إن هذا "يفسر لماذا قام داود أوغلو بزيارة مفاجئة إلى نيويورك. كان يحاول استرضاء المصرفيين والمستثمرين المتوترين. حتى أنه لم يخبر وزارة الخارجية الأمريكية بزيارته. يبدو أن الأتراك في حالة من الذعر". الذعر من انهيار الأوضاع الاقتصادية في تركيا كما يعتقد بعض المحللين، يزداد حدة نتيجة التقييمات السلبية التي تقدمها شركات استثمارية مثل مجموعة Deltec الدولية، وتشير فيه إلى أن تركيا واحد من الاقتصادات الناشئة ذات المخاطر المرتفعة مثل فنزويلا وروسيا، جراء تواصل العجز في الحساب الجاري على الرغم من انخفاضه، وتراجع الاحتياطات من العملة الأجنبية، وتزايد الديون الخارجية قصيرة الأجل، وانخفاض الطلب المحلي. ومع هذا فإن مختصين اقتصاديين يعتبرون أن الاقتصاد التركي يمكنه التغلب على ما يواجه حاليا من مصاعب. وقال لـ"الاقتصادية" المختص في الأسواق الناشئة برين كروك قائلا "الناتج الوطني الإجمالي لتركيا 820 مليار دولار في 2013، لتعد بذلك ثاني أكبر اقتصاد بين البلدان الإسلامية حيث تتفوق عليها إندونيسيا فقط". وقال إن الاقتصاد التركي حقق عائدات من التصدير بلغت 51.8 مليار دولار، بينما بلغ حجم السوق المحلية 95 مليار دولار. مضيفا "نحن نتحدث عن اقتصاد يمتلك عوامل قوة داخلية لا يستهان بها، والأزمة الراهنة لليرة التركية هي أزمة عامة في معظم الأسواق الناشئة". وقال "لا أعتقد أن حجم رؤوس الأموال الأجنبية التي ستغادر الأسواق التركية سيؤدي إلى انهيار اقتصادي". ومن عوامل القوة كما يرى ذلك كروك "أن 40 في المائة من التجارة الخارجية التركية تتم مع الاتحاد الأوروبي، وفي ظل التوقع بأن معدل النمو في منطقة اليورو سيرتفع فمتوقع ارتفاع الصادرات التركية مستقبلا يدعمها في ذلك تراجع قيمة الليرة". و72 في المائة من الاستثمارات الأجنبية المباشرة في تركيا تأتي من البلدان الأوروبية، وإذا قلصت واشنطن من توسعها المالي بإلغاء سياسة التيسير الكمي ورفع أسعار الفائدة؛ "فإن أوروبا تسير الآن في اتجاه معاكس وهذا في مصلحة تركيا على الأمد القصير والمتوسط"؛ وفقا لحديث برين كروك. لكن أستاذ الاقتصاد المقارن كاترين هريثت تبدي ملاحظات مغايرة في هذا الصدد وتقول إن عوامل القوة لدى الاقتصاد التركي يجب ألا تغفل عوامل الضعف التي يمكن أن تؤدي به للانهيار. وقالت لـ"الاقتصادية"، "صحيح أن تركيا نجحت في زيادة الناتج المحلي الإجمالي ثلاثة أضعاف خلال العقد الأخير، إلا أن حصتها من الاقتصاد العالمي لم تتغير وظلت 1.41 في المائة منذ 1987 وبيانات صندوق النقد تكشف أن معدل النمو في السنوات الأخيرة أقل من نظرائه في الأسواق الناشئة". واعتبرت ما يروج له الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من جعل اقتصاد البلاد العاشر دوليا "مبالغ فيه"، مضيفة "الاقتصاد التركي يتأرجح بين المرتبتين الـ 15 والـ20 وفي الواقع تراجع من المرتبة الـ 17 إلى المرتبة الـ 19 العام الماضي". وتابعت "علينا تذكر أن التدفقات الرأسمالية إلى تركيا تراجعت من 73 مليار دولار في 2013 إلى 43 مليارا فقط العام الماضي، وتقلصت الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى النصف خلال عام واحد لتصل إلى 5.5 مليار دولار فقط". وبينما تلقي مصادر حكومية تركية بأزمة الليرة على عاتق المضاربات، فإن آخرين يحملونها إلى ما يعتبرونه محاولة من الرئيس التركي للسيطرة على توجهات البنك المركزي. وتثير الضغوط التي يمارسها أردوغان قلق رجال الأعمال والمستثمرين داخل تركيا وخارجها. والبعض يعتبر الهجوم الذي يمارسه الرئيس ضد محافظ البنك المركزي التركي لخفض أسعار الفائدة لا يعود إلى دوافع اقتصادية بل سياسية. ويقترب موعد الانتخابات البرلمانية في البلاد المقرر عقدها في حزيران (يونيو)، وتواصل تراجع الليرة الحالي، بما له من تداعيات على مستويات معيشة المواطنين وانسحاب المستثمرين الأجانب، يعني أن حزب العدالة والتنمية لن يستطيع الفوز بأغلبية كاسحة تمكن الرئيس من تعزيز صلاحياته في الدستور كما يرغب. من هنا يعتقد أن أردوغان يضغط بقوة لخفض معدلات الفائدة لتشجيع الاقتراض الداخلي وزيادة الاستهلاك المحلي، وهو ما يواجه بمعارضة من محافظ البنك المركزي أردم باسجي. وقال المختص في مشكلات التضخم أرنست هارتون إن موقف أردوغان الراهن من محافظ البنك المركزي التركي يثير قلق المستثمرين الأجانب "لأنه مبني على اعتبارات سياسية ولأنه يقضى على استقلالية البنك المركزي". وأضاف "أردوغان يروج مفاهيم تتناقض مع مبادئ علم الاقتصاد، فهو يدعي أن خفض معدل الفائدة سيخفض معدل التضخم الراهن في تركيا، الذي يقترب من المعدل المستهدف وهو 5 في المائة وهذا خطأ بالغ والأجدر بالسلطات التركية أن تبعد عن معدلات الفائدة وتركز على خطر النمو المتواصل للديون الخارجية للشركات التي بلغت 170 مليار دولار". ويعتقد أغلب المختصين الاقتصاديين أن البنك المركزي التركي سينصاع في نهاية المطاف لرغبات الرئيس بخفض معدل الفائدة، لكن الآراء تتباين حول التأثير الحقيقي لإقدام محافظ البنك المركزي التركي على تلك الخطوة. وتعد تركيا من أكثر الاقتصادات الناشئة التي استفادت من تراجع أسعار النفط، إذ سمح ذلك بتقلص عجز الحساب الجاري أحد أبرز القضايا محل الاهتمام بالنسبة للبنك المركزي. وتشير البيانات التركية إلى تراجع العجز في الحساب الجاري بنحو 30 في المائة خلال العام الماضي ليصل إلى 45.8 مليار دولار أو ما يعادل 5.7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وخفض معدل الفائدة كما يطالب أردوغان قد يحسن وضع العملة التركية مقارنة بنظرائها في الاقتصادات الناشئة، لكن الخسارة التي سيتعرض لها الاقتصاد القومي من وراء تلك الرسالة التي يبعث بها هذا الموقف للمستثمرين الأجانب وهي سيطرة السلطة التنفيذية على قرار البنك المركزي. وتتابع كاترين هريثت أستاذ الاقتصاد المقارن حديثها لـ"الاقتصادية" بأن البنك المركزي "انصاع قبل أسبوعين تقريبا وخفض سعر الفائدة بشكل طفيف، لكن ذلك لم يكن كافيا لتعزيز الليرة". وقالت "لو احتدم الوضع بين أردوغان ومحافظ البنك المركزي أتوقع رحيل المحافظ وكذلك علي باباجان نائب رئيس الوزراء والمسؤول عن الملف الاقتصادي.. إذا ما تم الإطاحة بالرجلين، فأعتقد أن الأزمة الاقتصادية ستشتد حدتها في تركيا". ويعزز هذا التوقع الاقتراب من فصل الصيف حيث يتوقع إعلان الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي رفع أسعار الفائدة، وقالت هريثت "هذا سيؤدي حتما إلى خروج رؤوس الأموال من تركيا والاستثمار في أمريكا، ما سيزيد الأوضاع الاقتصادية في تركيا سوءا".
مشاركة :