مللنا من الكتابة في السياسة وتوجعت رؤوسنا وأصبح العديد من القراء يطالبون بشيء من الراحة أو الاستراحة بما يدخل البهجة في قلوبهم، ولهذا قررت أن ابتعد قليلاً عن السياسة ووجع الرأس والهموم العربية التي تشغل البال وترهق القلوب بعدما أرهقت عقولنا.. وسأكتب اليوم للتنفيس عن الأرواح والعقول المرهقة لربما نستفيد منها، وطبيعي أن تكون المشاعر والأحاسيس هي النقيض الحلو في حياتنا للسياسة ومتاعبها، فالإنسان كتلة لا تتجزأ من المشاعر التي يتبادلها مع من حوله، فإن وجد ردة فعل إيجابي لمشاعره وأحاسيسه قويت العلاقات وتميزت، وإن لم يلقَ الإنسان هذا الرد الإيجابي فسوف يصاب بانتكاسة، فأي إنسان لن يستطيع العطاء بدون حب ولن يستطيع أن يحب بدون التسامح.. وهذا يدفعني لسرد قصتين عن الحب والتسامح. الأولى بين زوجين فقيرين ولكن المولى عز وجل زرع في قلبيهما الود والرحمة والألفة.. يقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الرّوم 21).. فقد عاش رجل فقير مع زوجته التي طلبت منه ذات مساء شراء مشط لشعرها الطويل حتى يبقى ناعمًا ولتزيد من رونقه وبريقه وإشراقه في أعين زوجها الذي ﻧﻈﺮ ﺇﻟﻴﻬﺎ وعيناه يملؤها الحزن الشديد «فالعين بصيرة واليد قصيرة» كما يقولون، وهو لا يملك قوت يومه البسيط. فالزوجة رأت في عينيه بسريرتها الطيبة هذه النظرة الحزينة وانكساره أمامها حتى أنه حاول إبلاغها مدى احتياجه للمال حتى لأقل القليل منه ليشتري به جلدًا لساعته. ﻟﻢ ﺗﺠﺎﺩﻟﻪ ﺯﻭﺟﺘﻪ ﻭﺘبسمت ﻓﻲ ﻭﺟﻬﻪ، ولكم كان موقفها هذا مريحًا له وأسره في نفسه، فما كاد يمر الليل حتى انتهى عمله في اليوم التالي ليذهب الى السوق مسرعًا ليبيع ساعته بثمن قليل ليشتري لها المشط الذي طلبته منه بالأمس، وعاد مسرورًا الى منزله ليبشر زوجته ويفاجئها بما اشتراه ردًا على مشاعرها الطيبة وابتسامتها الجميلة أمس فهي لم تحزن من ضيق ذات اليد بل تقبلت الأمر بصدر رحب وسكينة وقناعة ورضا بالمكتوب. وما أن فاجأ الزوج زوجته بصنيعه حتى ردت هي بمفاجأة أخرى أذهلته، فكشفت عن شعرها القصير وهي المعروفة عنها طول الشعر ونعومته وانسيابه مما يمنحها جمالاً فوق جمالها، لتمد يدها له وبها جلد جديد لساعته في نفس اللحظة التي مد هو يده لها بالمشط.. ﻓﻨﻈﺮﺍ اﻟﻰ ﺑﻌﻀﻬﻤﺎ البعض وتلاقت ﻋﻴﻨﺎﻫﻤﺎ وهي ﺗﺪﻣﻌﺎﻥ.. ﻟﻴﺲ ﻷﻥ ﻣﺎ ﻓﻌﻼﻩ ﺫﻫﺐ ﺳﺪﻯ، بل ﻷﻧﻬﻤﺎ ﺃﺣﺒﺎ ﺑﻌﻀﻬﻤﺎ ﺑﻨﻔﺲ ﺍﻟﻘﺪﺭ وأراد كلاهما تحقيق رغبة الآخر. إنها صدق المشاعر والأحاسيس التي لا تنضب أبدًا طالما رويناها بالحب لتعود علينا بالسعادة والهناء والسرور، فعندما نحب نحصد حبًا، وعلينا إسعاد من نحب وكل من حولنا. وكان الحب بين هذين الزوجين صادقًا وإحساسًا جميلاً فكان رد الفعل أجمل، فهما حولا دنيتهما الى جنة في الأرض. فالزوج المحب لم ينتظر صنيع زوجته ولم تنتظر هي الأخرى صنيع زوجها. فنية المؤمن أبلغ من عمله، وهذه حكمة بليغة في حياتنا، فإذا أحببنا الخير لغيرنا وجارنا وجدناه في دارنا، فالإنسان الذي يزرع خيرًا يحصد نتائج صنيعه. ومثلما فعل الزوج والزوجة. وبمناسبة الحب، حكي لنا صديق في جلسة سمر نادرة من نوادره مع زوجته وكان حديثه عن المشاعر والأحاسيس فقال: «أرسلت لزوجتي رسالة حب جميلة وكنت متشوقًا لأن ترد عليَّ بكلمة إعجاب أو صورة تعكس إحساسها كما هو إحساسي». واستطرد قائلاً: «غير أنني فوجئت بأن زوجتي لم ترد عليّ وأحسست بغصة في نفسي، لأن الحياة ما هي سوى مشاعر وإحاسيس حتى وإن تقدم بنا العمر، فالمشاعر حياة أو على الأقل تمنح الحياة بهجة وسرور، وعندما تموت المشاعر والحب بين قلبين تغيب الحياة الحقيقية عنهما». وهنا أكشف سر سردي قصة الرجل الفقير وزوجته وتضحيته بساعته وهي بشعرها من أجل إرضاء كل منهما للآخر في مشاعر حب فياضة وود وحنان تقيم بنيانًا صحيحًا، ولعل زوجة صديقنا تنتبه الى ما فعله صمتها في زوجها. وقبل الانتقال الى قصتي الأخرى، سمعت بالصدفة رجلاً في أحد البرامج الحوارية في حلقة عن الحب بين الزوجين، فحكى إنه ذات ليلة سأل زوجته وهما على الفراش: «هل لا تزالين تحبينني؟».. فما كان منها سوى رد أضحك المذيعين وأضحكنا وربما كل من شاهد هذه الحلقة، فقالت الزوجة: «نام يا رجل فنحن كبرنا على هذا الكلام».. فمثل هذه الزوجة أخمدت مشاعر الحب في قلب زوجها ولم تروِ عطشه للحنان وسماع كلمة طيبة ربما كانت ستعينه على مشاكل الحياة الكثيرة التي آثر الزوج كتمانها في نفسه وعدم إزعاج زوجته بما يمر به. أقول ربما، فليس كل ما نعانيه في حياتنا وأعمالنا نحكيه، ولكني أعتقد أن مثل هذا الزوج كان في حاجة ماسة لكلمة حب أو لمسة حنان تعينه على أوجاعه. ومن مشاعر الحب وسحر الابتسامة الى التسامح، هذا الإحساس الجميل الذي ينشر الحب إن انتشر بين البشر، فالتسامح ينهي الأوجاع ويغسل القلوب ويطهر الأرواح، وتقول القصة التي يرويها زعيم جنوب إفريقيا الراحل نيلسون مانديلا، إنه طلب ذات مساء من طاقم حمايته الترجل قليلاً ثم أعقبه بطلب آخر وأن يتناول العشاء بأحد المطاعم برفقة رجال الطاقم الأمني، وبينما هم يتناولون الطعام لاحظ مانديلا في الطاولة التي أمامه شخصًا وقد استرجعته ذاكرته بمجرد رؤيته، فطلب من أحد جنوده أن يستدعيه ليأتي الى طاولتهم ويتناول الطعام معهم. فذهب الجندي الى الرجل كما طلب منه مانديلا ودعاه للجلوس على طاولة الزعيم الذي دعاه الى الجلوس بجواره مباشرة.. لاحظ الجميع أن أيدي الرجل ترتجف بمجرد أن جلس بجوار مانديلا ولم يتوقف ارتجافه هذا حتى وهو يتناول طعامه، ولم يعرفوا سببل لذلك. فسألهم مانديلا بمجرد أن أنهى الرجل طعامه وغادر المطعم لحال سبيله وفرغوا هم جميعًا من وجبة العشاء: «هل أدركتكم سبب ارتجاف أيدي الرجل؟» فرد أحد الجنود: «ربما يعاني الرجل مرضًا سبب له هذه الحالة العصبية أو أن الارتجاف نتيجة شعوره ببرودة الجو». انتظر مانديلا بعض الدقائق ولكنه لم يجد إجابة شافية من جنوده على سؤاله، فقال لهم: «سأكشف لكم حقيقة ارتجاف أيدي هذا الرجل الغريب عنكم، فهو كان حارسًا بالسجن الذي مكثت فيه نحو 25 عامًا، و في أغلب الأحيان وبعد كل تعذيب أتعرض له منه كنت أصرخ من شدة الألم وأطلب قليلاً من الماء.. فيكون رده بالتبول على رأسي، ولهذا فهو بمجرد أن لمحته بالطاولة التي بجواري وجدته يرتجف خوفًا من انتقامي لأنه توقع أنني سأبادله تعذيبًا بتعذيب أو أمر الحراس بسجنه على الأقل وأنا رئيس الدولة ولكن هذه ليست من شيمي أو أخلاقي. لقد اتسم تصرف نيلسون مانديلا وهو الزعيم بالتسامح وهذا شعور العظماء، فالتسامح أو»العفو عند المقدرة» من أعظم مبادئ الأخلاق الكريمة، والعفو من شيم الكرام، يقول تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} ويقول سبحانه: {وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم}.. وكان تصرف مانديلا عظيمًا مثلما هو عظيم، فأعفى وسامح ولم تسيطر عليه عقلية الثأر، فهي لا تبني أمة في حين أن عقلية التسامح تشيد حضارات. وأيًا كان المشاعر والأحاسيس فهي كالوردة تذبل ويضيع عطرها إن لم نروها بالحب والعطف والحنان والتسامح، وكذلك تموت القلوب وتتيبس إن لم نسقها حبًا وطيبة. كاتب ومحلل سياسي بحريني
مشاركة :