الانتخابات المحلية التركية: دروس وتوقعات

  • 4/6/2019
  • 00:00
  • 16
  • 0
  • 0
news-picture

سواء فاز مرشح حزب العدالة والتنمية برئاسة بلدية إسطنبول الكبرى أو لم يفز، وذلك بعد عملية إعادة فرز أصوات مجموعة من صناديق الانتخابات المحلية التي جرت قبل أيام، فإن هيبة الحزب في المشهد السياسي التركي الداخلي قد اهتزت من دون شك. هذه حقيقة نعتقد أن أصحاب القرار ضمن الحزب المذكور يعرفونها ويقرّون بها قبل غيرهم. فهؤلاء على دراية تامة بأهمية الانتخابات المحلية بالنسبة لمعرفة توجهات المواطنين في الانتخابات البرلمانية المقبلة. من جهة أخرى تكتسي هذه الانتخابات أهمية خاصة، إن لم نقل استثنائية لحزب العدالة، فقد بنى قوته على مدة 17 عاما من حكمه لتركيا من تواصله مع الناس في مختلف المدن والبلدات والقرى التركية. كما أن الرئيس رجب طيب أردوغان بدأ مشواره السياسي القيادي رئيسا لبلدية إسطنبول حيث بذل، بالتعاون مع فريقه، جهودا متميزة لا ينكرها خصومه، فما بالك بجمهوره وأنصاره وأعضاء حزبه، من أجل النهضة بالمدينة، وجعلها مركزا اقتصاديا سياحيا ثقافيا وفق أحدث المعايير العالمية، لتصبح المدينة منارة حضارية تستحق بجدارة أن تكون جسر التواصل، وساحة التفاهم والحوار بين الحضارات والأديان. وكانت التجربة التركية، التي أظهرت إمكانية التعايش بين حزب إسلامي التوجهات ونظام علماني المبادئ والقواعد والإجراءات، تجربة رائدة في المنطقة، كثر الحديث حول إمكانية اعتمادها نموذجا يمكن أن تقتدي به مجتمعات ودول المنطقة من مواقع خصوصياتها المتباينة. الانفتاح التركي على روسيا وإيران، فقد كان لحسابات براغماتية محضة، ولكنها قد تتحول في ظل تفاقم الخلاف التركي الغربي إلى صيغة من صيغ التوافق المرحلي، الذي تتوقف استمراريته على مدى فاعلية الأسباب التي كانت وراء حدوثه إلا أن الذي حصل هو أن عوامل عدة تفاعلت في ما بينها وأدّت تراكماتها إلى تراجع دور وشعبية حزب العدالة والتنمية على مستوى المجتمع التركي بكل مكوّناته، ولكن ليس إلى الحد الذي قد يستنتج منه المرء بأن تغييرا جذريا هو على وشك الحدوث في تركيا. إلا أن هذه العوامل ستستمر في فعلها وربما تؤدي إلى تحول في المعطيات والنتائج، ما لم تكن هناك مراجعة نقدية من قبل قيادة حزب العدالة للمرحلة الزمنية الطويلة نسبيا التي قاد خلالها البلاد. وأهم هذه العوامل هي: -1 الخلافات البينية ضمن حزب العدالة والتنمية. وهي خلافات كانت حول الأولويات وسبل معالجة القضايا المحلية والإقليمية، وقد تمثلت في إبعاد أسماء عدة، كان أصحابها يُعتبرون من القيادات الرئيسية المحورية في الحزب المعني، الأمر الذي أدى إلى ظهور الحزب في مظهر المسيّر بإرادة رجل واحد، هو رئيس الجمهورية، ما ولد امتعاضا داخليا، أو على الأقل عدم ارتياح ضمن الأوساط الشعبية. كما أنه أضعف كثيرا من القوة لحجج الحزب المذكور في سياق دعوة المواطنين إلى التصويت له. -2 الترهّل وخفوت الألق. وهذه ظاهرة طبيعية عادة ما تعاني منها الأحزاب التي تتسلم مقاليد السلطة لفترة طويلة، لاسيما في بلد كبير بحجمه ودوره وموقعه كتركيا. فالحزب لم يتمكن من تجديد قياداته. كما أن تراجع الروحية الجماعية في القيادة، إلى جانب اتساع دائرة صلاحيات الرئيس، كل ذلك وغيره أدى إلى صعوبة إجراء مراجعة نقدية حقيقية تستهدف معالجة السلبيات والتركيز على الإيجابيات. تضاف إلى ذلك الانتقادات الكثيرة التي وُجهت إلى بعض أعضاء الحزب بسبب استفادتهم من مواقعهم السياسية، أو إدارة الشؤون الاقتصادية بطريقة غير مهنية، تفتقر إلى الكفاءات المطلوبة للتعامل مع الأزمات الاقتصادية التي تعد في عصر العولمة جزءا من الدورة الاقتصادية لا بد أن تعالج بإجراءات اقتصادية خبيرة مهنية إبداعية. فالوضع الاقتصادي في تركيا بات ضاغطا بالنسبة إلى المواطنين، خاصة من الطبقة الوسطى وأصحاب الدخل المحدود. فالمواطن التركي يعاني اليوم، بعد فترة “البحبوحة” التي كانت على مدى العشر سنوات الأولى من حكم حزب العدالة، من تراجع مستوى الدخل إلى حدود قياسية، إذ تبلغ قيمة الأجور الفعلية التي يحصل عليها المواطنون اليوم ثلث القيمة التي كانوا يحصلون عليها قبل خمس سنوات، وذلك مقارنة مع سعر صرف الليرة مقابل الدولار. وهذه المسألة حيوية إلى أقصى الحدود، وتستوجب أخذها بعين الاعتبار والجدية، أما تجاهل هذه النقطة والبحث عن أسباب أخرى، فلا يرى المواطنون أنها الأسباب الفعلية للأزمة، فهذا معناه المزيد من تراجع الثقة وفقدان الشعبية. -3 الإخفاق في وضع الحلول لجملة من القضايا الداخلية خاصة القضية الكردية وقضية حرية التعبير. فالقضية الكردية، هي قضية أساسية ومؤثرة تركيا وإقليميا. وقد بادر حزب العدالة في بداية عهده إلى التعبير عن استعداده للتعامل معها بعقلية مفتوحة، مستفيداً في ذلك من النهج الذي كان الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال قد بدأ به، ولكن الذي حدث هو توقف مباحثات السلام بين الحكومة وحزب العمال الكردستاني لأسباب يتحمّل الأخير مسؤوليتها الأساسية من دون شك. غير أن الحكومة من جانبها فضّلت الربط بين القضية الكردية والحزب المعني، وكأنه هو الوحيد الذي يمثل إرادة الأكراد في تركيا، إذ عطّلت هذا المسار، وبدأت في المقابل اتخاذ جملة من التدابير التصعيدية التي ولّدت انطباعا سلبيا في الأوساط الكردية، مفاده أن الحكومة قد أغلقت الباب نهائيا أمام حل عادل لهذه القضية، واتخذت عوضا عن ذلك خيار التشدد القومي، الأمر الذي لم يكن يوما في مصلحة تركيا ولا في مصلحة المنطقة بشكل عام. هذا في حين أنه كانت هناك، ومازالت، خيارات أمام حزب العدالة بخصوص هذه القضية، منها تقديم وجهة نظر متكاملة حول سبل الحل، وطرحها للمناقشة على المستوى الوطني، وعلى الأكراد بصورة خاصة عبر أحزابهم ومنظماتهم، وشخصياتهم المؤثرة، ويكون حزب الشعوب الديمقراطي حزبا من بين الأحزاب المعنية، دون أن يكون الطرف الوحيد، وذلك لأسباب كثيرة منها عدم قدرته على التحرك بحرية بعيدا من قرارات قيادة حزب العمال الكردستاني الحالية التي يدور حولها جدل كبير. هذا إلى جانب عدم قدرة حزب الشعوب على الابتعاد كثيرا عن المجموعات، وحتى الشخصيات، اليسارية التركية، سواء المنتمية إلى الحزب أو المتحالفة معها التي تتصرف وفق عقائدها الأيديولوجية وعقدها المزمنة، التي لا تستقيم كثيرا مع المصلحة الوطنية. عوامل عدة تفاعلت في ما بينها وأدّت تراكماتها إلى تراجع دور وشعبية حزب العدالة والتنمية على مستوى المجتمع التركي بكل مكوّناته، ولكن ليس إلى الحد الذي قد يستنتج منه المرء بأن تغييرا جذريا هو على وشك الحدوث في تركيا أما قضية حرية التعبير، فهي ضرورة معيارية للعملية الديمقراطية المتكاملة، فهذه الأخيرة لا بد أن تعتمد الشفافية وتتحمّل النقد، وأن يكون هناك استعداد للوقوف عند الأخطاء التي يتم تناولها من قبل المنتقدين بغية التأكد منها، والعمل على معالجتها قبل أن تتراكم وتتفاقم، وتؤدي إلى تحولات سلبية في هذا الاتجاه أو ذاك. -4 العلاقة المضطربة مع الحلفاء التقليديين والتوجس من حلفاء الضرورة. ليس سرا أن العلاقة بين الحكومة التركية من جهة، والإدارة الأميركية والحكومات الأوروبية من جهة أخرى، ليست على ما يُرام. هذا رغم حاجة كل جانب إلى الآخر، وعدم وجود الرغبة لدى الجانبين في دفع حالة البرود إلى نهاياتها القصوى. ولهذا الأمر بواعث كثيرة، منها ما تخص التاريخ والإستراتيجيات الكبرى ومنها ما تخص المصالح الاقتصادية. كما أن لعقيدة الجيش التركي ونظامه دورا لا يُستهان به في هذا المجال. وجدير بالذكر في هذا المجال أن النزوع نحو الغرب كان أساسا لبناء الدولة التركية الحديثة. ومن الجانب الغربي، مازالت تركيا تحظى بمكانة إستراتيجية في سياق عملية إعادة صياغة المعادلات المرحلية والإستراتيجية التي ستسير بموجبها المنطقة. أما الانفتاح التركي على روسيا وإيران، فقد كان لحسابات براغماتية محضة، ولكنها قد تتحول في ظل تفاقم الخلاف التركي الغربي إلى صيغة من صيغ التوافق المرحلي، الذي تتوقف استمراريته على مدى فاعلية الأسباب التي كانت وراء حدوثه. تحديات كبرى تنتظر تركيا في خضم ما يشهده إقليمنا من حروب وانزياحات سكانية واسعة، خاصة في سوريا والعراق. وهي تحديات داخلية وإقليمية ودولية، تستدعي في مجملها مراجعة جادة للأخطاء والعثرات والتوجهات التكتيكية والإستراتيجية.

مشاركة :