المتقاعدون فئة من المجتمع موجودة في كل المجتمعات العالمية وهي أكبر شريحة مجتمعية في ازدياد. والتقاعد هو مرحلة واقعية من مراحل كل موظف لكن رغم ذلك يمضي الكثير من الناس حياتهم بأكملها ينتظرون التقاعد، وعندما يحدث ذلك، لا تكون هذه التجربة جيدة كما كانوا يتوقعونها. تونس- غلبت الدموع سالم (67 عاما) حين قال “قضي الأمر، قررت التقاعد بعد تمديد سنوات عملي.. سأسافر إلى ولدي في ألمانيا وفرنسا”. رغم المرارة التي طغت على حديثه بدا الرجل متحمسا وهو يتحدث عن خططه لبداية حياة جديدة وسعيدة يقضيها متنقلا بين الدول الأوروبية. لم تمض أشهر قليلة حتى عاد لزيارتنا قائلا “لم أستطع تحمل البرد هناك لقد بدأت معاناتي مع الروماتيزم”. وكالعادة بدا أثر الدموع في عينيه واضحا أكثر هذه المرة. الحقيقة أن سالم لم يتحمل أن يظل “عاجزا” لا يفعل شيئا بعد 40 سنة من العمل. فلا شيء أصعب من اتخاذ قرار التقاعد رغم تعب السنوات الكثيرة. يقسم الإنسان عادة حياته إلى مراحل ثلاث، تعتبر مرحلة التقاعد الفصل الثالث فيها، يراها البعض عبئا ونهاية وينظر إليها البعض الآخر على أنها بداية حياة الراحة والاستمتاع. ففي البداية تكون مرحلة التعليم التي تبدأ بدخول المدرسة مرورا بتخرجه في الجامعة أو تعلم صنعة ورحلة بحثه عن العمل؛ وهي “الفصل الأول” من حياته. أما “الفصل الثاني”، فهو مرحلة الاجتهاد في العمل وبناء عائلة صغيرة، وهي مرحلة تستمر حتى التقاعد من الحياة العملية عادة. اتجاه عالمي تواجه البلدان العربية مشكلة يتوقع أن تتفاقم في السنوات المقبلة، ناتجة من الارتفاع المطرد في أعداد كبار السن في مجتمعات هذه البلدان، الغنية منها والفقيرة، في المشرق وفي المغرب، وفي غيرهما من أقاليم المنطقة. وقد انضوت المجتمعات العربية في سياق اتجاه عالمي مع الارتفاع المطرد في معدل الأعمار الوسطي في المنطقة لأسباب اقتصادية واجتماعية وصحية. وفـي الأرقام يبلغ 8 بالمئة من سكان العالم 65 عاما أو أكثر و12 بالمئة 60 عاما أو أكثر. أما في المنطقة العربية حيث يبلغ سن التقاعد 60 عاما في معظم البلدان، فإن 8 بالمئة من السكان يبلغون 60 عاما أو أكثر، ومن المتوقع أن تصل هذه النسبة إلى 15 بالمئة بحلول عام 2045. وقد ورد في تقرير “فئة المسنين في المنطقة العربية: الاتجاهات الإحصائية ومنظور السياسات”، الذي صدر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان وجامعة الدول العربية، أن عدد كبار السن يرتفع بوتيرة سريعة في المنطقة العربية. ووفقا لشعبة السكان في الأمم المتحدة، فإن عدد سكان المنطقة الذين تزيد أعمارهم عن 60 عاما سوف يتضاعف تقريبا في غضون 15 عاما، ليرتفع من 27 مليونا في عام 2015 إلى 50 مليونا في عام 2030، ليصل إلى أكثر من 80 مليونا بحلول عام 2045 وهو رقم مرتفع يوازي تقريبا عدد سكان مصر عام 2010 الذي كان حينها 84 مليون نسمة. ويفرض هذا الارتفاع تحديات كبيرة على هذه البلدان واقتصاداتها وأنظمة الرعاية وضمان الشيخوخة فيها، وعلى الأطر القانونية الناظمة لها، عدا عن ضرورة تكيف المجتمعات العربية مع أنظمة العمل الحديثة، وأنظمة الرعاية الاجتماعية للمسنين. وفيما كان يعتقد أن الشيخوخة تعتبر قضية أو مشكلة بالنسبة إلى البلدان الأكثر تقدما دون الدول النامية، تقول الأرقام إن هذا ليس هو الحال بالنسبة إلى المنطقة العربية. يذكر أن درجة الاهتمام والتخصص في مؤسسة الضمان الاجتماعي تختلف بين بلد وآخر، وتندرج مؤسسات الضمان الاجتماعي في معظم الدول تحت إشراف حكومي. الضمان الاجتماعي وضع نظام الضمان الاجتماعي لحماية الأفراد اجتماعيا واقتصاديا، ويكون باقتطاع نسبة بسيطة من الراتب الشهري للعامل تُحول إلى مؤسسة الضمان الاجتماعي وتقوم المؤسسة التي ينتمي إليها المواطن بدفع مساهمة عنه بنسبة معينة تحددها مؤسسة الضمان وهذه النسبة تختلف بين الدول، ويحصل الفرد على المال الذي تم اقتطاعه منه أثناء دورة عمله عند سن معينة يسمى “السن القانوني للتقاعد” ويُصرف له المبلغ على شكل راتب شهري ولا يحق له أن يأخذه كاملا إلا في حالات معينة. وتشمل الخدمات التي يقدمها الضمان الاجتماعي على توفير رواتب التقاعد والتأمين ضد العجز وتعويضات البطالة والرعاية الطبية والصحة والسلامة وغيرها. والضمان الاجتماعي هو قانون في المادة الـ22 من “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” والذي ينص على أن كل شخص باعتباره عضوا في المجتمع له الحق في الضمان الاجتماعي بما يتفق مع موارد كل دولة، من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي لا غنى عنها من أجل كرامة الإنسان، وكل دولة وقّعت على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان واجب عليها أن توفر حياة كريمة لأفراد المجتمع. تهدف التأمينات الاجتماعية إلى تعويض الموظف المؤمّن عليه أو أسرته عن الخسارة التى يتعرض لها المتمثلة في فقده الدخل نتيجة تحقق أحد المخاطر المؤمّن ضدها والتي تتمثل في بلوغ سن التقاعد، العجز، الوفاة، الإصابة بالمرض وأخيرا البطالة. فوفق إحصائيات المعهد التونسي للإحصاء، بلغت نسبة البطالة في البلاد 15 بالمئة، ويقدر عدد العاطلين عن العمل بأكثر من 601 ألف شخص إلى موفى مارس 2015، من بينهم 222.9 ألفا حاملون لشهادات التعليم الجامعي، وتقدر بذلك البطالة لدى هاته الشريحة بنسبة 30 بالمئة. وحين ينضاف إلى هؤلاء ما يقارب من 80 ألف متخرج سنويا من الجامعة التونسية، مع الإجراء المنتظر اتخاذه بتمديد سنوات الشغل للموظفين الحاليين، لا يصعب توقّع ارتفاع نسب البطالة لدى فئة الشباب، وهو ما من شأنه أن يعرض البلاد لهزات اجتماعية أخرى. مسؤوليات كثيرة يقول مختار (61 عاما) الذي تقاعد منذ سنة أو تزيد قليلا “منذ أشهر، بدأت أشعر بالملل، لا جديد في الحياة وأشعر بأنه ليست هناك مواسم أفراح قادمة، الروتين هو تفاصيل أيامي، فما أفعله اليوم أفعله في الغد وكذا بقية الأيام، عملت في وظيفة مرموقة لسنوات قبل أن أتقاعد، علمت أبنائي أفضل تعليم، لقد كوّنوا الآن أسرا سعيدة، أما أنا فبدأت أتساءل في نفسي ما الذي بقي لي في الحياة؟لا شيء، أشعر بأني عالة على المجتمع، أريد العودة إلى عملي، فلا أزال في كامل صحتي”. يذكر الأمر بقضية رفعها رجل هولندي يبلغ من العمر 69 عاما قبل أشهر، ضد سلطات بلاده لإجبارها على إنقاص 20 عاما من عمره بشكل قانوني، لكن المحاكم قابلت دعواه بالرفض. ويقول إميل راتيلباند إنه لا يشعر بأنه مسن متقاعد، وأن إنقاص عمره ليصير 49 عاما سيعينه على إيجاد فرصة عمل. قال راتيلباند بدعواه إن من حقه أن يُسمح له بتغيير تاريخ ميلاده، لأن طبيبه أخبره بأن جسده جسد رجل في الـ45 من عمره. وفي تونس، أثار وزير جدلا واسعا حين قال إن مشكلة الصناديق الاجتماعية تكمن في أن المتقاعدين يعيشون كثيرا. ولا يتخلى كبار السن في المجتمعات العربية عن دورهم، طوعا أو قسرا، عندما يبلغون سن التقاعد أو يحالون على المعاش، فقسم كبير يستمر في العمل والإنتاج حتى مرحلة متقدمة، خصوصا ممن لا رواتب تقاعد لهم أو أصحاب المهن الخاصة والحرفية والمزارعين والعمال. وفي كل الأحوال يستمر كبار السن في الاضطلاع بدور أخلاقي ومعنوي وينظر إليهم بوصفهم أرباب الأسر المسؤولين عن معيشتها. وفي الكثير من الحالات، هذا الدور ليس رمزيا فحسب، بل يرتبط أيضا بالكثير من المسؤوليات، لاسيما الاقتصادية والمالية. ورغم ذلك يمضي الكثير من الناس حياتهم بأكملها ينتظرون التقاعد، وعندما يحدث ذلك، لا تكون هذه التجربة جيدة كما كانوا يتوقعونها. أحد هذه التفسيرات هو أن المرء الذي عمل لسنوات عديدة، يتأخر كثيرا كي يعتاد على دوره الاجتماعي الجديد. الآن أصبح شخصا “عديم النفع” لسوق العمل. هناك سبب آخر وهو أن التقاعد يرتبط أيضا بالشيخوخة، وبالتالي بنهاية الحياة عمليا. يكفي مشاهدة عدد المؤسسات التي ليست مستعدة بعد لاستقبال كبار السن، فكيف يكون الموضوع بالنسبة لهؤلاء الأشخاص الذين سوف يبقون في المنزل جالسين طوال الوقت على الكرسي الهزاز. الدراسات النفسية أكدت أن الإنسان عندما يتوقف عن العمل تتوقف معه طاقات كبيرة جسدية ونفسية وذهنية أشارت الأبحاث والدراسات النفسية إلى أن الإنسان عندما يتوقف عن العمل تتوقف معه طاقات كبيرة جسدية ونفسية وذهنية، ومن ثم لا تجد تلك الطاقات مخرجا لها وهو ما يؤدي بشكل مباشر وسريع إلى حدوث اضطرابات نفسية وذهنية غالبا ستكون هي بداية رحلة التدهور السريع في صحته الجسدية والنفسية. وعلى الرغم من وجود الكثير من الضغوط الاجتماعية، فإن هناك الكثير من الأخصائيين يؤكدون أن الحياة تبدأ بعد التقاعد، فالعمر الثالث هو المرحلة الأفضل كي يعتني الإنسان بذاته ويكون قريبا من العائلة والأقارب، وتحقيق الأحلام التي تم تأجيلها بسبب عدم توفر الوقت لذلك. كما كشفت أعداد من الدراسات عن المشاكل النفسية التي يجتازها المتقاعدون في بداية مرحلتهم العمرية الجديدة وأن الجانب المادي يلعب دورا في تحديد مدى قدرتهم على مواجهتها. وقالت مصادر نقابية في لقاءات حول المتقاعدين المغاربة مثلا، إن أغلبهم يعيشون على عتبة الفقر، فيما أوضح أستاذ علم الاجتماع مغربي أن صغار الموظفين والعمال هم أكثر الفئات، التي تعاني صعوبات التقاعد لاعتبارات عديدة، أبرزها الجانب المادي. ويقول الأستاذ “بخصوص الرفع من سن التقاعد، فالواضح أن رفعه سيحول حياة الإنسان ككل إلى عمل بما يجعله غاية في ذاته لا وسيلة لتحقيق غايات أخرى، وهنا ننسى أن المعادلة الفلسفية والوجودية للإنسان هي أنه ‘يعمل ليعيش ولا يعيش ليعمل فحسب"”.
مشاركة :