"نيوتن لم يكن الأول في عصر المنطق، بل كان آخر جيل السحرة وآخر البابليين والسومريين وآخر عقل قديم بحث في العالم المنظور بنفس الأعين التي بدأت بناء إرثنا الفكري.. قبل عشرة آلاف عام". هكذا وصفه البريطاني جون كينز؛ أحد أكثر المنظرين الاقتصاديين تأثيراً في القرن العشرين. الرجل الذي أزعج بعض التلاميذ بعد مرور أكثر من مئتي سنة على موته، بسبب تفاحة، لم يضمر أي عداوة لهم بالتأكيد. ببساطة؛ سمح لهم نيوتن باكتشاف الكون وسلّط ضوء عبقريته القوية ليضيء مناطق مظلمة في عقل الإنسان، أما التفاحة، فلم تسقط على رأسه كما تناقلتها إشاعات الناس التي تبحث عن التسلية والغرابة حتى في أكثر نظريات العلم تعقيداً… التفاحة؛ سقطت على رأس كرتنا الأرضية التي كانت ولا تزال تبحر في ظلام ووحشة هذا الكون المخيف، من دون تلسكوب أو حتى ساعة رملية! كان نيوتن يؤمن بأنه وجد على هذه الأرض ليكشف هذه الحقائق العظيمة للبشرية، مرة أخرى. وهذا أمر فيه من الغرور وبعض الاعتداد بالنفس، مع مسحة خفيفة من عدوانية كثيراً ما تلتصق بالروح العبقرية التي ترفض القوانين والعالم في محاولة لتغييره بالقفز على المسلمات وتحطيم القواعد الثابتة. ليس هذا فحسب، بل إنه عانى من اكتئاب، قلق وسوداوية، نفور من المقربين وشعور بالاضطهاد وسط علاقات اجتماعية شبه معدومة. لم يكن فيلسوف الطبيعة وعالم الرياضيات يصدّق سوى ما يمكنه أن يثبته بنفسه مهتدياً بالنور الذي خرج من روحه في مرحلة مبكرة من شبابه. وكلما تعرضت أفكاره واكتشافاته العلمية لانتقاد العالم، انسحب مرة أخرى إلى داخل عقله. كان مستعداً لرفض أفكار كل من سبقوه في المعتقد العلمي لكنه لم ينكر فضلهم، وهذه واحدة من تناقضات شخصيته المحيرة حيث عُرف عنه تواضعه، حتى بعد أن توصل إلى كل الاكتشافات والاختراعات، وصرح في أكثر من مناسبة “ما توصلت إلى كل هذه الأمور إلا لأنني وقفت على أكتاف عمالقة سبقوني”! هل هذه هي أعراض العبقرية؟… ربما تكون في جانب واحد منها.. لكن ماذا عن طفولته؟ عندما ولد إسحاق نيوتن صبيحة عيد الميلاد من العام 1642، في مقاطعة لينكولنشاير في إنكلترا بعد موت والده قبل ذلك بأشهر، كان طفلاً ضعيفاً ضئيلاً للغاية.. حتى اعتقد الناس بأنه لن يعيش طويلاً، لكنه خيب أمل القدر ربما. وعندما كان في الثالثة نبذته أمه عندما تزوجت وذهبت للعيش في بيت زوجها الثري لتتركه في رعاية جدته لأمه.. هذا الأمر ترك أثراً كبيراً في روح نيوتن رافقه طوال حياته.. ربما كان يكنّ مشاعر عدائية لها بسبب هجرها له، فنقم على والدته وزوجها لتذهب بعض المصادر إلى أنه هدد بحرقهما وحرق منزلهما في واحدة من نوبات غضبه، بل إن الأم وبعد أن ترملت مرة أخرى وعادت لتعيش مع ابنها أخرجته من المدرسة وهو في سن المراهقة ليدير مزرعة العائلة، إذ لم تكن تجد فيه أي ملكة تشجع على الاستمرار في الدراسة بحسب رأي معلميه، هذا لأنه كان يافعاً متمرداً يكره القيود العقلية والقوالب الجاهزة. رغم ذلك، وفي لفتة متميزة، أعاده خاله الذي كان مؤمناً بتميزه وموهبته إلى مقاعد الدراسة بعد مدة قضاها مزارعاً فاشلاً، فأشار عليهم بأهمية إرساله إلى الجامعة لدراسة العلوم. كان إسحاق قليل الكلام، كتوماً، صعب المراس يفقد السيطرة على انفعالاته بسهولة، لكنه لم يبق للعلماء لا في زمانه ولا بعده أي شيء ليكتشفوه، وهذا هو سبب نقمة وحسد وغيرة البعض التي طاردته في مراحل متعددة من حياته العلمية. كان يجيب على هذه الأفعال بمزيد من العزلة والإنجازات المبهرة؛ قوانين الحركة الثلاثة، قانون الجاذبية الكونية، دراساته في الضوء والألوان والبصريات، الزمن والخلود، الكواكب، والخيمياء في مرحلة متأخرة من حياته. مات شيخاً في الرابعة والثمانين، ولم يدر في خلده بأنه قدّم للبشرية ما لم يستطع جيش من العلماء أن يقدمه، بل إنه في واحدة من أشهر كلماته قال بصراحة وبساطة “لا أعلم ما سأكون عليه أمام العالم.. لكن أمام نفسي أبدو كغلام يلعب على الشاطئ، أقوم بتسلية نفسي بين الحين والآخر بالبحث عن أنعم الحصوات أو أجمل الأصداف.. بينما يقبع محيط الحقيقة الهائل.. غير مكتشف أمامي”!
مشاركة :