واحد من أكثر أزمات التحليل السياسي الآن، انتشار الإشاعات والتحليل الاستباقي والرغبوي بشكل غريب تحول إلى ظاهرة، كما أنه ينظر إلى السياسة (فن الممكن) على أنها قطعيات عقائدية أو مسلّمات اجتماعية وفكرية، في الأسابيع القليلة الفائتة يمكن رصد مئات المقالات والتحليلات والنقاشات حول الفعاليّة السعودية النشطة في عهد الملك سلمان لا سيما على مستوى تحسين الأجواء الإقليمية في سبيل تكوين كتل توافقية في المنطقة ليس في كل القضايا، وإنما في الأساسية منها، الملف المصري، المفاوضات الغربية الإيرانية، وصعود الحضور التركي بعد تبني رجيع الإسلام السياسي من دول الربيع، وهو تبنٍ انتقل من المساندة في المواقف إلى تحول أنقرة إلى قبلة استثمارية لأموال التنظيمات الحركية ومكان آمن للعيش حتى تستقر الأوضاع في البلدان الأصلية (هناك الكثير من حالات النزوح لقيادات في الحركات الإسلامية لتركيا)، وهو النزوح الثاني للإسلاميين بعد هجرة السبعينات عقب الاصطدام بالسلطة، إلا أن النزوح الأخير ليس هروبا من السلطة حيث تقف الكثير من بلدان الربيع العربي على أرض غير صلبة ومستقرة وبالتالي فمفهوم الدولة والسلطة في أكثر أحوالهما هشاشة وضعفا، لكنه هروب من حالة الفوضى التي تقضي على مقدرات الجماعة ودخول منافس جديد على الخط وهو الوجه الآخر من الإسلام السياسي الشيعي بميليشياته المنظمة والمتناغمة في تكوين رؤية مضادّة لفوضى الإسلام السياسي السني والتي لا تعود إلى طبيعة المواقف السياسية وإنما بنية وتكوين هذه الجماعات خارج رحم الدولة، وتلك قصّة أخرى. في خضم هذه التحولات الكبيرة، فإن من الطبيعي أن ترسل الرياض رسائل إيجابية تتوافق مع التغيرات الإقليمية، لكن تلك الإشارات حتما لا تخضع لرغبات محللي السياسة أو المتعاطفين مع مكونات سياسية لا تمثل دولة مهما كان حضورها أو تأثيرها، فالتعامل مع المكونات السياسية ضمن نطاق دولة كما هو الحال مع حزب العدالة والتنمية في المغرب الذي اندمج داخل سياق مؤسسات الدولة المغربية فلا يمكن التعامل معه بنفس درجة حزب الإصلاح اليمني الخارج من المشهد. من جهة ثانية الاصطفاف الإقليمي الذي يتكهن به بعض الكتّاب وبشكل أقرب إلى الإملاءات وليس التحليل السياسي يستهدف مواقف الدول الأخرى من التعامل مع قضايا لا تشكل بنية السياسة الخارجية للدولة كما هو الحال في الموقف من الحرب على داعش أو تصنيف جماعة الإخوان أو حتى الموقف من الحالة السورية، والتي يمكن أن يتوحد الفرقاء في جبهات أخرى على الموقف من النظام الأسدي وجرائمه بحق شعبه. وفي ذات السياق فإن وحدة الموقف السياسي لدول الخليج تجاه القضايا الكبرى وعلى رأسها المخاوف الأمنية وحماية الاستقرار ما بعد الربيع العربي لا يعني التطابق في وجهات النظر حول التعامل مع ملفات داخلية أو خارجية لا تؤثر على الرؤية الكلية. اليوم يجب الكف عن الحديث عن الدولة السعودية باعتبارها امتدادا لحكم أفراد محكومين بإطار زمني وجودي، وعلينا استشعار ملامح المرحلة التي دشنها العهد السعودي الجديد بإعطاء الثقة لجيل الأحفاد في تأسيس لثبات سياسي بإطار زمني يمتد لعقود، وهو ما يعني أن ثمن الاستقرار السعودي ليس مجانيا بقدر ما أنه انعكاس لفهم حساسية المرحلة والتوقيت وإعادة موضعة المملكة بوصفها نموذجا لدولة الاستقرار والرفاه رغم الكثير من التحديات التي على عاتقها وأبرزها التحديات الأمنية وأزمات المنطقة المتراكمة والمعقدة. والحال أنه يجب أن يكف عرافو السياسة وما أكثرهم اليوم في إطلاق الشائعات الرغبوية بشأن السياسة الخارجية السعودية، وعليهم التوقف عن فرض أجندات جديدة باعتبار أن التحول السياسي في المملكة قد يصاحبه تحول على مستوى المواقف الخارجية، وهو ما يخالف وضعية «الاستباقية السعودية» على مستوى السياسة الخارجية التي تمثلت في تقديم حلول سياسية لأزمات المنطقة الكبرى من المصالحة بين دول الخليج، إلى المبادرة اليمنية، إلى الموقف من الأزمة السورية، إلى الملف الأكبر؛ الحرب على الإرهاب. وبالتالي، فإن هدف السعودية المعلن والثابت هو صياغة تصورات وحلول إنقاذ للعبث الجيوسياسي في المنطقة بهدف إعادة استقرارها. السعودية تملك أوراقا تفاوضية عالية القيمة، ويكفي أن إعادة الاستقرار لمصر، والمحافظة على استقرار الحالة البحرينية، والقطيعة التشريعية والمجتمعية مع «الإرهاب»، تعزز من قدرة الرياض على طرح أولوية «الاستقرار» في مقابل نزعات الانفصال. ولفهم هذه التحولات يجب قراءة سياق السياسة الخارجية لدول محور الاعتدال وفق منطق عقلاني على اعتبار أنها حصيلة واقعية سياسية صرفة قائمة على التحالف على مبدأ الأصلح للبلاد والعباد، هناك تحديات كبيرة تواجهه ولا سيما أن دولا كالأردن والمغرب مثخنة بمعارضات مؤدلجة ضاغطة، كما أن تذبذب العلاقات مع الولايات المتحدة في نسختها الأوبامية ألقى بظلاله على هذا المحور، كما أن الدور السياسي شاق جدا ومكلف وطويل المدى. القصة تبدأ من المحور التدميري الذي تقوده إيران إلى خلخلة الأنظمة عبر المعارضات وهو الدور ذاته الذي تلعبه أطراف صغيرة. محور الاعتدال بقيادة السعودية يواجه معضلات إعادة ترتيب البيوت السياسية بعد الاستقرار بأعبائها العسكرية والاقتصادية، محور الاعتدال يواجه كيانات السياسة الخارجة على منطق الدولة، ويشمل ذلك حزب الله من جهة والمجموعات المسلحة التي قد تنجرف إلى غايات أبعد من إسقاط الأنظمة إلى بناء الدول كـ«داعش»، محور الاعتدال عليه عبء ما بعد الاستهداف العسكري للإرهاب، فأسلوب الوجبات السريعة والطائرات بلا طيار ومجمل سلوك الولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب أورث المنطقة دولا منهكة مفتتة قابلة للانفجار. محاولة صناعة الاستقرار في حقول الألغام أمر أشبه بالمعجزة.
مشاركة :