يرى حفتر أن الوقت قد حان لإسقاط منافسه السياسي، فايز السراج، والإسراع في توحيد البلاد تحت سلطة الجيش، ضارباً بعرض الحائط المسار التفاوضي الذي أشرفت عليه الأمم المتحدة. فكيف استطاع حفتر الإقدام على خطوة الهجوم على طرابلس؟ خليفة حفتر بعد أن ضاعف نفوذه السياسي، معتمداً على دعم عدة قوى إقليمية، وبعد سيطرته على عدة مناطق من التراب الليبي، شنّ خليفة حفتر، قائد "الجيش الليبي" الموالي لمجلس النواب في شرق البلاد، حملة عسكرية واسعة ضد العاصمة طرابلس، ظاهرها تخليص العاصمة من "الجماعات الإرهابية"، وباطنها الإطاحة بحكومة الوفاق الوطني، عبر ضرب الميليشيات المسلحة التي تعدّ القوات الرئيسية لهذه الحكومة المعترف بها دوليا برئاسة فائز السراج. بيدَ أن الغرب الذي رعى ولادة حكومة الوفاق عبر اتفاق الصخيرات عام 2015، لم يعد يحمل الحماس ذاته لهذه الحكومة، خاصةَ في ظل استمرار الانشقاق الليبي وعجز فائز السراج عن إقناع سلطات الشرق الليبية بمنح الثقة لحكومته، وما تبع ذلك من بزوغ نجم خليفة حفتر الذي يُعبّد الطريق أكثر نحو حُكم ليبيا. فكيف استفاد حفتر من السياق الدولي لمباشرة حملته؟ وكيف ساهم تناقض المواقف الغربية في تقوية دوره ؟ وهل أضحى الغرب مقتنعاً بضرورة إنهاء الأزمة الليبية ولو كان ذلك عبر السكوت عن مخططات شخصية عسكرية شاركت القذافي انقلاب 1969؟ نهاية الحل السياسي؟ أكدت القوى الغربية كلها موقفها الرافض للهجوم الذي يشنه حفتر، واتفقت الدول السبع الصناعية على رفضها للحل العسكري في الصراع الليبي، مطالبة بضرورة العودة إلى طاولة المفاوضات. لهجة التنديد تغيرت من عاصمة إلى عاصمة، ففي الوقت الذي ارتفعت حدة الرفض في واشنطن وروما وبرلين ولندن، كانت الحدة أقل في باريس، وكانت أضعف في روسيا، خاصة أن موسكو كانت وراء منع إصدار بيان رئاسي من مجلس الأمن الدولي يدعو قوات حفتر لوقف هجومها، ليكتفي المجلس ببيان صحافي احتوى على الدعوة ذاتها. قوات حفتر المعروفة باسم جيش ليبيا الوطني ويرى عادل اللطيفي، أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة باريس، في حديث مع DW عربية، أن التطورات العسكرية الأخيرة في ليبيا تؤكد المأزق الكبير الذي وقعت فيه البلدان الغربية، فقد أدركت أن الحل السياسي الذي شجعته عبر الاعتراف بحكومة الوفاق، لم يؤثر على أرض الواقع، إذ بقي نفوذ فائز السراج منحصراً على طرابلس، بينما فرض حفتر وجوده على المستوى العسكري. ويتابع اللطيفي أن الغرب لا يمكنه حالياً التنصل من الحل السياسي، لكن لا يمكنه كذلك إنكار الواقع، ولذلك فإن الدعوات الغربية إلى الهدنة تبقى حسب المحلل "قبولاً بالأمر الواقع، بل قبولاً بإمكانية أن يقلب حفتر الوضع تماما". واستطاع حفتر تسلّق الاعتراف الغربي رويداً رويداً، بدأه أولاً بتقديم نفسه محارباً للجماعات الإرهابية عبر إطلاقه عملية الكرامة عام 2014 لتحرير بنغازي من الجماعات الإرهابية. وقد ظهرت نوايا الرجل السياسية منذ اتخاذه موقفاً رافضاً للإسلام السياسي، ثم مساهمته في عرقلة الاعتراف بحكومة السراج. وجذب حفتر اهتمام الغرب رسمياً منذ سيطرة قواته على المنشآت النفطية في البلاد، لذلك ركز على روسيا التي قدمت له السلاح، ثم فرنسا التي قدمت له شرعية سياسية بإشراف إيمانويل ماكرون على المصالحة بينه وبين والسراج في يوليو 2017. استغلال "الحيرة" الغربية استغل حفتر "المأزق الغربي" بشكل جيد، ليس فقط لتقديم نفسه فاعلاً سياسياً بجبة العسكري المنتصر على "الإرهاب"، بل لخلق علاقة أكثر قوة مع القوى الراغبة في الاستفادة من النفط الليبي، إذ تقول عدة تقارير إعلامية إن فرنسا تدعم حفتر بالسلاح منذ عهد فرانسوا أولاند، وهو ما استمر مع إيمانويل ماكرون. وقد زكت الاتهامات الإيطالية لباريس بـ"منع الاستقرار في ليبيا" هذه التقارير، زيادة على احتجاج السراج، حسب ما نقلته شبكة الجزيرة، على الموقف الفرنسي الداعم لحفتر، رغم أن باريس نفت هذا الدعم مؤخراً. وتقوّى مخطط حفتر أكثر بتراجع نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، مقابل تمدد الدب الروسي، وبالوضع الإقليمي الذي يشهد حركية سعودية-إماراتية-مصرية لمواجهة الإسلام السياسي، بالأوضاع في الجزائر حيث يملك الجيش حالياً مفاتيح المشهد السياسي بعد استقالة بوتفليقة. وجاء الوضع الداخلي في ليبيا ليوّسع أكثر مطامح حفتر، إذ يقول اللطيفي إن اعتماد حكومة الوفاق الوطني على ميليشات مسلحة، بعضها لا يمتلك توجهاً سياسيا، وبعضها لديه توجهات قبلية، قوّى جبهة حفتر، خاصة أن بعض هذه الميليشيات دخلت في صراعات مسلحة ضد حكومة الوفاق في وقت سابق، فهي جماعات مسلحة تصلح لتنفيذ أجندات مرحلية فقط حسب تعبير الخبير. غير أنه في الجانب الآخر، لا يرى اللطيفي أن مساندة فرنسا لحفتر كانت ملموسة، وكل ما في الأمر أن "ماكرون تعامل ببراغماتية، فهو يرى في حفتر الرجل القادر على ردع المجموعات المسلحة المنتشرة في البلد". ويوافق اللطيفي على الدور الكبير الذي لعبته مصر والإمارات والسعودية في تقدم حفتر، لا سيما مع تراجع شعبية تنظيمات الإسلام السياسي في ليبيا. إنهاء الأزمة بأيّ ثمن عمرّت الأزمة الليبية أكثر من ثماني سنوات، إذ تعد ليبيا حالياً، إلى جانب اليمن وسوريا، أكثر الدول العربية لا استقراراً، وفي كل لحظة، تظهر تباشير حل سياسي، تأتي تطورات جديدة تنهيه وتُدخِل البلاد في أزمة جديدة تزيد من ترّدي الأوضاع داخلياً. وتؤثر الأزمة كذلك على محيط ليبيا، فهي تمنع التدفق الطبيعي لموارد النفط، وتفسح المجال أمام عصابات تهريب البشر وتشجيع الهجرة غير النظامية، فضلاً عن توفير أرضية خصبة للجماعات الجهادية وما يتبع ذلك من تأثير أمني على بلدان المنطقة، وهو ما يجعل الدول الغربية، خاصة أوروبا، ترغب في إنهاء الأزمة في أقرب فرصة. ويرى اللطيفي أن الغرب تعب من الأزمة الليبية، وأدرك أن الوضع الداخلي معقد وأن المسار التفاوضي السياسي وصل إلى باب مسدود، لذلك أضحى الحل، بالنسبة للغرب، هو أن تنتصر قوة داخلية، خاصة وأن التاريخ "بيّن أن الحروب الأهلية تنتهي غالباً بانتصار طرف عسكري على أطراف أخرى، بل إن البلدان التي لم يفض فيها الصراع السياسي إلى انتصار طرف مسلح دون طرف، انهارت فيها الدولة تماماً كما جرى في الصومال" يقول اللطيفي. "للأسف، فوز طرف ما مهم لإنهاء الصراع. هذه اعتباطية التاريخ عندما يصير الحل الوحيد هو التفاف الدولة حول نواة عسكرية". يقول اللطيفي، متحدثاً عن أن الغرب مقتنع أن حفتر يمكنه السيطرة على ليبيا، وأن يتحوّل جيشه إلى مشروع لبناء دولة والشروع مرحلة انتقالية، خاصةً أن جيش حفتر يَظهر في صورة الانضباط العسكري، وهو ما لم يتجسد في القوات الداعمة لحكومة السراج. لكن مع ذلك، يستطرد الخبير، سيجد حفتر بعض التحديات، منها أنه لن السيطرة بشكل تام على البلد، ومنها الضغط الغربي لأجل بناء دولة منفتحة لا ترمي بعيداً كلّ تراكمات المفاوضات السياسية خلال السنوات الماضية. الكاتب: إسماعيل عزام
مشاركة :