القسوة وضمير الأنانية

  • 3/11/2015
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

قضية هذا الجزء من المقالات من سلسلة النمو الأخلاقي متعلقة بأثر تربية الدلع والقسوة على أخلاق الأطفال وكيف تدفع بهم باتجاه الأنانية. الأنانية هنا تعني غياب الآخر عن تفكير الأنا أو حضوره حضورا استعماليا فقط. في المقابل في التفكير الأخلاقي تلتقي الأنا مع الآخر لكي يحضر الآخر كذات وتحضر الذات كآخر. تربية الدلع كانت موضوع مقالة الأسبوع الماضي. الفكرة الأساسية كانت كالتالي: تربية الأنانية تحجب الأنا عن الآخر من خلال حجب الطفل عن التعلّم من آثار تصرفاته. الدلع هنا يعني أنه بدلا من أن ترتد على الطفل نتائج تصرفاته مع الآخرين ليتعلم منها يقوم الأهل بقطع هذه الدائرة ويبقى الطفل بعيدا عن فهم الآثار التي أنتجها سلوكه على الآخرين. مع الوقت يصبح هذا الجزء غائبا عن تفكيره، وهذا يعني أنه سيتحرك في حياته منطلقا من حسابات فردية لا يحضر فيها الآخر كطرف أساسي وهذه هي الأنانية. الأنانية هنا انغلاق على الذات. الآخر هنا ليس غريبا ولا مختلفا بل مفهوم في حسبة ذاتية أي موضوع لاستعمال الذات لا أكثر. بالنسبة للقسوة فهي تعمل كذلك على إفساد العلاقة مع الآخر من جهة أخرى. أعني بالقسوة هنا أن يتم تحميل الطفل نتائج مفرطة لسلوكه أو تحميله عواقب سلوك لم يرتكبه. المشهد كالتالي: أب يعتدي بالضرب المبرح على ابنه لأنه كسر لعبة أخته. أو أم تقاطع ابنتها لفترة طويلة بسبب أنها خالفتها في قضية معينة. الآخر الذي تفسد هذه التربية العلاقة معه يبدو في شخصيتين. الأولى شخصية الأب والأم والأخت. القسوة تفسد العلاقة مع الأب، لأن سلوكه غير مبرر وفيه عنف يحيل الذات إلى مجرد موضوع للألم. أثناء الضرب تتضخم الفجوة بين الأب والابن ليملأها الألم والشعور بالإهانة. قد لا يستطيع الطفل هنا مواجهة ذاته والاعتراف بأنه يكره أباه على الأقل في تلك اللحظة، ولكن هذا العنف سيولد في داخله ارتيابا وربما حقدا دفينا على الجميع. كذلك سيورث الطفل ارتيابا هائلا في الناس جميعا. إذا كان الأب بهذه القسوة فغيره بالتأكيد أولى بها. الفتاة التي هجرتها أمها هناك احتمال كبير أن تشعر بمشاعر مقاربة لمشاعر الابن. الأم هنا تتحول إلى كائن يعاقب بقسوة وبدون مبرر. الأم هنا تمارس عدوانا مؤلما على الذات. الأم والأب هما الآخر الذي يعوّل عليه الطفل أكثر من غيره. حين يفشل هذا الآخر في إقامة العدل في الذات فإن الاحتمال أكبر مع بقية الآخرين. الشخصية الثانية للآخر في أمثلتنا هنا هي شخصية الأخت التي تمت معاقبة الابن بسبب كسر لعبتها. الأخت هنا تظهر في عين أخيها كسبب لما وقع عليه من عنف وألم. الأخت هنا شريكة في الجريمة في عين الأخ. هنا تمتد عملية إفساد العلاقة مع الآخر لتصل إلى الأخت التي يفترض أن سلوك الأب جاء لحمايتها. هذه الأخت تحولت من ضحية إلى جلاد في عين أخيها بسرعة هائلة، وهو أيضا ما يؤدي إلى إرباك إمكان استقرار الآخر ولو نسبيا، وهو الأمر الضروري لبناء علاقة تعاقدية أخلاقية. الصورة السابقة حرصت على إيضاح كيف تؤدي القسوة في التربية إلى إفساد العلاقة مع الآخر من خلال ضرب الثقة فيه وزرع حالة من الرغبة بالانتقام في نفس الطفل. الآن يفترض أن ينتقل إلى الحديث إلى فهم كيف تؤدي هذه الحالة إلى الأنانية. أو بعبارة أخرى كيف تدفع هذه التربية الطفل إلى الانغلاق على ذاته. برأيي أن هذه الحركة يمكن أن تتوجه في طريقين الأول هو شعور عميق لدى الطفل بالمظلومية، مما يجعل بقية حياته محاولة لعلاج جراحه. الفكرة هنا كالتالي: الأولوية لنفسي وعلاجها. هنا تصبح الحياة عملية طويلة من تعويض الذات. الآخر هنا يحضر لهذه المهمة تحديدا. ارتباط الفرد هنا بالآخرين يقوم على مبدأ البحث عن تعويض. العلاقة هنا تصبح علاقة أخذ لا عطاء. علاقة شبيهة بعلاقة المريض مع طبيب متخيّل. الطبيب هنا يفترض ألا يمرض وإذا مرض تم استبعاده والبحث عن طبيب آخر. الإنسان في هذه الحالة يبدو محجوبا عن رؤية ألم الآخرين. لذا فهو يضعهم في قوالب الأقوياء المستعدين للعطاء والمستغنين عن المساعدة. في الاتجاه المقابل يمكن أن يرتدي هذا الإنسان المقسو عليه رداء الحرب ويبدأ حياة من المعارك مع الآخرين لا يوجد فيها إلا منتصر أو مهزوم. الثقة مع الآخرين تم تدميرها مع ضربات الأب وصمت الأم. النتيجة ألا يظهر الآخر في عين هذا الإنسان إلا كموضوع للانتصار وكساحة لظهور أخلاق الصراع. المنافسة هي اللحظة التي تسقط فيها روح الأخلاق عند هذا الإنسان. مع غير المنافسين هناك مساحة لاستعراض مشاهد القوة بإظهار ملامح من العطف والرحمة والشفقة، ولكن مع حالات التنافس وهي من أقوى اختبارات الأخلاق تسقط الأخلاق وتظهر استراتيجيات الحرب والقتال. القسوة تزرع الخوف في داخل الإنسان. الخوف هنا يدفع الإنسان في اتجاهات مختلفة: أحدها البحث عن الأمان والعجز عن إعطائه. الثاني هو مدافعة الخوف بإشعال الحرب. الحرب تعني ولو وهميا استمرار الوعي بحالة الصراع. في كلتا الحالتين يتجه الإنسان إلى دائرة أنانية مغلقة تحجب الآخر عن أن يظهر كشريك يمكن الثقة بالوجود معه. الصورة تبقى أحادية يبدو فيها الآخرون كموضوعات للاستثمار. حين يتلبس الأناني دور الضعيف فهو يعيش كمستقبل لعطاء الآخر دون أي استعداد لمبادلة العطاء. أما حين يتلبس دور القوي فهو يعمل كوحش مفترس لديه القدرة على إظهار شيء من الرحمة، ولكن فقط حين يشبع ونادرا ما يفعل.

مشاركة :