الأنانية بين الدلع والقسوة

  • 3/4/2015
  • 00:00
  • 35
  • 0
  • 0
news-picture

إحدى الأفكار الرئيسة في المقالات السابقة عن النمو الأخلاقي وعلاقته بالعدالة أن هذا النمو في جوهره سلوك اجتماعي. بمعنى أن هذا النمو هو عبارة عن خبرة اجتماعية تتشكل حسب طبيعة العلاقات الاجتماعية التي يعيش فيها ومنها الأفراد. الأنانية بدت لنا من خلال النقاش على أنها إحدى علامات المرض الاجتماعي المتمثّل في هشاشة مفاهيم العدالة. الأنانية باختصار تضر لب العلاقات التعاونية الاجتماعية التي هي أساس مفاهيم العدالة. الأنانية ليست فقط حبا للذات وانشغالا مغلقا بها بقدر ما هي استعمال أحادي الجانب للآخرين. الأناني يعي تماما الأذى الذي يحدثه الفعل الأناني لذا فهو يرفض أن يقع عليه. اليوم سأحاول التفكير في ضوء ما سبق في هذا السؤال: كيف يصبح الإنسان أنانيا؟ مباشرة يصبح سؤالنا كالتالي: ما هي العلاقات الاجتماعية التي تدفع بالإنسان في اتجاه الأنانية؟ بهذا نحن نخرج من البحث السيكولوجي إلى البحث الاجتماعي. دعوى هذا المقال أن هناك نمطين من التربية متعارضة في الظاهر، ولكنها تؤدي إلى نتيجة واحدة وهي السلوك الأناني. النمط الأول هو تربية "الدلع" والثاني تربية "القسوة". اخترت هذه التعابير لأنها أقرب للاستعمال المتداول بين الناس. الأطروحة الأساسية والمباشرة هنا أن تربية الدلع وكذلك تربية القسوة تؤسس علاقة غير تعاونية بين الفرد والآخرين. العلاقات غير التعاونية هي علاقات صراع أناني الغلبة فيه تخضع لمعايير القوى والتأثير الاجتماعية. سنرى هنا أن "الضعف" قد يعمل كقوّة في معادلة اجتماعية معينة. مقالة هذا الأسبوع مخصصة للنمط الأول. تربية الدلع تعني أن يقوم المربي بتولي كثير من المهام التي يمكن/ يفترص أن يتولاها الفرد بنفسه. الأم الحنون لدرجة مبالغ فيها تتولى كثيرا من المهام اليومية، غسيل الملابس الخاصة مثلا، بدلا عن ابنها المراهق، لأنه في نظرها لا يزال صغيرا وغير جاهز لهذه المهمة بعد. بدلا من لومه على أخطائه يعتقد الأب أنه لا يزال مبكرا تحميل الابن أو الابنة هذه المسؤولية. هنا الأب والأم يعملان على قطع العلاقة بين سلوك الطفل ونتائج هذا السلوك، وهذا يعني قطع عملية التعلّم وتراكم الخبرات. المعادلة المباشرة للتعلم تتم من خلال ربط الفعل بثماره، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تعديل السلوك وتطويره. سنتعرف لاحقا على أثر هذه التربية في رؤية الطفل للآخر والذي هو محور السلوك الأناني وقضية العدالة. الآن لنفكر قليلا في الأسباب التي تدفع المربين باتجاه هذه التربية. يمكن أن نلاحظ هنا أن تربية الدلع تربية لا يقوم بها إلا محب، فهي ليست إهمالا ولكنها علاقة حب محدودة النظر. أسباب كثيرة قد تؤدي إلى هذا النمط من التربية منها أن يعتقد الأهل أنهم قد عانوا من التربية القاسية، وأنهم لا يريدون أطفالهم أن يمروا بالمعاناة ذاتها. لذا يحاول الأهل تجنيب أطفالهم بشكل مبالغ كل ما يزعجهم أو يتحدى رغباتهم. سبب آخر هو أن يعتقد الأهل أن هذا الطفل ضعيف وغير قادر على تحمّل صعوبات الحياة، وبالتالي يحيطونه بحماية مفرطة. "ضعيف" أو "حساس" غالبا ما يكون القالب الذي يتم هذا الطفل في داخله. ضعف الطفل هنا يتحول بفعل تربية الأهل إلى قوة تحميه من تحمل تبعات أفعاله أو على الأقل أن يعامل بعدالة مع الآخرين. هذا يعني أن تعطى له الأولوية مقارنة بأقرانه. الطفل يدرك هذه الآلية ويستمر في استثمارها ربما طول عمره من خلال استغلال من يحبونه والضغط عليهم بإبراز نقاط ضعفه، وغالبا ما يكون أعمى عن نقاط ضعفهم في معادلة أخذ بلا عطاء. سبب آخر للأنانية يكمن في كون الأهل لأسباب طبقية واجتماعية معينة يعتقدون أن طفلهم يستحق أن تتحقق كل أمانيه وألا ترفض رغباته. أو على الأقل ألا يتم إزعاجه بسبب من هم أقل منه قيمة وشأنا. العنصرية والطبقية والتطرف الديني عوامل أساسية خلف مثل هذه الرؤى. قلنا إن مثل هذه التربية تقطع دائرة التعلم التي تفترض ارتباط السلوك بأثره وتأثير هذا الأثر في السلوك الجديد. هذا يمكن ملاحظته في السلوك الاجتماعي للطفل/ المراهق المدلع. يلاحظ الناس أن هذا الطفل يفقد كثيرا من المهارات الاجتماعية التي تجعله يتعامل مع الناس بشكل جيد. مع الوقت يستطيع المراهق تملك مستوى معين من المهارات الاجتماعية، ولكن الذي يصعب عليه -برأيي- هو استعادة حضور الآخر في تفكيره. تربية الدلع تحجب سلوك الطفل عن آثاره، فهي تحجب هذا الطفل عن رؤية الآخر على حقيقته. الابن الذي يضرب أخته أو يستولي على ألعابها ثم تتوفر له الحماية من والديه بحيث لا يتحمل آثار سلوكه لا يرى أخته. لا يراها لأنه لم يعرف ألمها. الرابط التربوي الطبيعي بين ألمها وبينه يفترض أن يتحقق من خلال ألمه. هذا يتحقق من خلال العقاب الذي يمر به الطفل المعتدي. الغرض التربوي للعقاب هنا هو أن يمرّ الابن بتجربة شبيهة لتجربة أخته تساعده على فهم ألمها وبالتالي تجنب إحداثه في المستقبل. تربية الدلع تحرم الابن من هذه المعرفة، فبدلا من تحمّل آثار سلوكه (بطريقة تناسب عمره) يتحرك الأهل لحمايته وخلق الأعذار له. هذه الحماية وهذه الروح الاعتذارية تحجبان الابن عن التواصل مع أخته. تمنعانه من أن تصل رسالتها/ ألمها إليه. البنت هنا يتم تصنيفها في مستوى أدنى من استحقاق الاهتمام، وبالتالي تغيب كطرف أساسي في سلوك الابن. هنا تولد الأنانية. غياب الآخر عن التفكير أو تحويله إلى درجة أدنى من درجة الذات هو مضمون العلاقة الأنانية.

مشاركة :