قيس سعيّد أستاذ القانون الدستوري الذي يحلم برئاسة تونس

  • 4/9/2019
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

كان هذا الرجل من الأسماء التي اكتشفها التونسيون في فترة ما بعد ثورة 14 يناير 2011، وهي الفترة التي شهدت طفرة إعلامية وسياسية وعرفت ظهور الكثير من الشخصيات السياسية والحقوقية والإعلامية في سياق النقاش السياسي الذي ارتفع منسوبه في تلك الأثناء. وقد تلمّسَ التونسيون فيه شخصية طريفة ومختلفة في آن. خبير في القانون الدستوري، وضليع في اللغة العربية، وهادئ الطباع وصاحب مواقف رصينة وتدخلات غير متشنجة. ولئن كانت أغلب إسهاماته منصبّة حول قضايا قانونية وتشريعية ودستورية، ذات صلة بالمشهد السياسي، إلا أنه تحول مؤخرا إلى مفصل من مفاصل النقاش السياسي السائد في البلاد، في سياق الموسم الانتخابي الذي انطلق مبكرا. ولم يكن اسم أستاذ القانون الدستوري التونسي، قيس سعيّد، مجهولا بالنسبة لعموم التونسيين، إذ لطالما عرف بتدخلاته وتحاليله القانونية، ذات الصلة بالقضايا السياسية، لكن اسم الرجل صعد في الفترة الأخيرة إلى صدارة الاهتمامات، بعد إعلانه اعتزامه الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة، بصفته مرشحا مستقلا. إعلان أثار تفاعلات متباينة بالنظر لما حفل به من مغازلة لحركة النهضة، التي لم تنف أن الرجل موجود على قائمة خياراتها الكثيرة. إعلان سعيّد نيته الترشح للانتخابات الرئاسية التونسية القادمة، لم يكن وليد اللحظة الراهنة، بل يعود إلى العام الماضي، وهو إعلان لم يحظ بالاهتمام الذي حظي به اليوم، ولعل الانتباه الشعبي والإعلامي إلى ظاهرة سعيّد عائد إلى أبعاد كثيرة متداخلة. أول تلك الأبعاد عامل التوقيت المتصل أساسا باقتراب الاستحقاق الانتخابي، بما يعنيه ذلك من تصاعد الزخم السياسي. وثانيها ما قدمه سعيّد نفسه من تصريحات توحي بمحاولة لفت انتباه حركة النهضة أو، على الأقل، عزفه على الوتر الذي يجد هوى لدى القواعد النهضوية، أي الموقف من المساواة ومن الدولة المدنية وتركيزه على فكرة التخلص من النظام القديم وغير ذلك من الشعارات. وثالثها شخصية الرجل في حد ذاته، وهي شخصية تقف في موقع وسط بين الطرافة التي تنتجها تدخلاته وتصريحاته وطريقة حديثه، وبين الصورة الصارمة الجدية التي يحرص على تقديمها في كل حضور إعلامي. ورابع الأبعاد التي تسببت في تزايد الاهتمام بالرجل وبترشحه، هو مواقف بعض القيادات النهضوية التي لم تنكر أنها تنوي دعمه في الانتخابات الرئاسية، بما يعني أن حركة النهضة تؤكد أن سعيّد موجود على لائحة خياراتها، وهي لائحة طويلة أصبحت شبه معروفة لدى الطبقة السياسية التونسية. سعيّد المولود بتونس العاصمة في العام 1958، فاجأ التونسيين في إطلالته التلفزيونية والإذاعية، بإتقانه اللغة العربية ونطقه السليم، واشتهر بدقة تدخلاته المتعلقة بالإشكاليات القانونية الكثيرة التي استجدت على المشهد السياسي التونسي خلال مرحلة ما بعد الثورة، ومعلوم أن الوضع السياسي التونسي احتاج منذ لحظة خروج الرئيس التونسي الأسبق، زين العابدين بن علي إلى تدخلات كثيرة من قبل خبراء القانون، للبت في العديد من القضايا السياسية والقانونية. ويتذكر التونسيون التدخل الشهير للصادق بلعيد الذي تمحور حول الخلل الدستوري المتعلق بشغور منصب الرئاسة سويعات قليلة بعد إقلاع طائرة بن علي مساء 14 يناير 2011. الزمن السياسي التونسي تسوده مفارقة عميقة مفادها أن المواطن التونسي، بشكل عام، بقدر يأسه وإحباطه من العملية السياسية الجارية بكل شخوصها وأحزابها وخلافاتها وظواهرها، أصبح يمارس شكلا من العقوبة تجاه العملية المذكورة، بالعزوف أو بالغياب أو حتى بالسخرية والتهكم، وحول بحثه عن التغيير إلى بحث عن أشخاص لديهم القدرة على تقديم خطاب مغاير لما هو سائد. وإذا طبقنا تلك المفارقة على المشهد الراهن، فإن العزوف السياسي عن التفاعل مع الاستحقاق الانتخابي يمثل ترجمة لليأس من قدرة كل الفاعلين السياسيين على إنتاج أي بصيص من الأمل. لذلك تحولت وجهة فئات واسعة من الناس إلى أشخاص بعينهم، قدموا خطابا مختلفا ومغايرا، أو تميزوا بقراءة مختلفة للمشهد، ومن هنا صعدت أسهم بعض القيادات السياسية حتى وإن كانت تقدم خطابا شعبويا فاقدا للبرامج والبدائل. في هذا السياق بالتحديد كان سعيّد نافعا ومفيدا في تقدير عدد كبير من التونسيين، لأنه خبير قانوني ولأنه يقدم ما يريد المواطن التونسي البسيط أن يسمعه من خطاب؛ خطاب مثقل بالهوية، يحمّل مسؤولية كل الانحدار الراهن إلى بقايا النظام القديم وإلى الخارج المتآمر على البلاد. من هنا نجح سعيّد في الاستئثار بنصيب واسع من المساندة، كما وضع نفسه أيضا، وللأسباب ذاتها، موضع النقد والتشكيك في الجدارة. الإصلاحات المدنية مؤامرة الخطاب الذي كان يقدمه سعيّد طيلة سنوات ما بعد الثورة، وجد صدى إيجابيا لدى أغلب التونسيين في البداية، وكلما اتضحت أفكاره، من خلال الإدلاء بدلوه في قضايا لا تتصل باختصاصه القانوني، كان يقترب من فئة محددة من الجمهور التونسي. موقفه، مثلا، من قضية المساواة في الميراث، أنتجت جدلا كبيرا لدى الرافضين كما لدى المتحمسين للمبادرة التي قدمها الرئيس التونسي في أغسطس عام 2017، كان موقفا يتماهى مع المواقف المحافظة التي تسلحت بكل أدواتها الدينية والفقهية لمحاصرة مبادرة الرئيس التونسي في المهد. إجادة سعيّد للحديث بلغة عربية فصيحة وبنطق سليم، وإلمامه القانوني الواسع، يتحولان مع الوقت إلى مادة للتندر وحتى التقليد من قبل بعض الممثلين والكوميديين، حيث وصل الأمر إلى تلقيبه بـ"الروبوت" لأنه يتحدث باسترسال عجيب وبلا توقف لكن سعيّد أضاف إلى الموقف تبريرات مرتابة تستحضر “المؤامرة”، حيث قال إن “مشروع قانون المساواة في الإرث قضية سياسية من أطراف تحاول الاستفادة من التوازنات السياسية أو تحاول إحداث توازنات سياسية جديدة. هذا المشروع جاء بطلب من البرلمان الأوروبي ومن المفترض أن لا نقبل بتوصيات من الخارج تتعلق باختيارات الشعب التونسي. لماذا دائما يعاملوننا كما يعامل الأستاذ التلميذ؟ هل يعتبروننا ضيعة أو بستانا؟”. والواضح أن سعيّد استحسن الصدى الذي أنتجته تصريحاته ذات الملمح الهووي، فركن إلى إعادة إنتاجها، مع تغليفها بمواقف تستسهل قراءة الوضع السياسي الراهن في تونس، أو أحداثا بعينها بالقول إن “الأزمات تثار داخل دوائر السلطة بهدف لفت نظر الرأي العام عن الأزمات الحقيقية” كما عبر عن ذلك مؤخراً في واحد من تدخلاته الإعلامية التي تكررت على خلفية إعلانه الترشح للانتخابات الرئاسية. شخصية طريفة كان لسعيّد أيضا موقف غريب من الدولة المدنية. إذ قال إنه “لا وجود لمصطلح دولة مدنية أو دينية في كل الموسوعات” وأن “الدولة هي ذات معنوية لا يمكن أن تكون دينية ولا مدنية، فقط للحكومات تلك الإمكانية”. ومكمن الغرابة نابع من كون التصريح صادر عن أستاذ في القانون، ونابع أيضا من السياق التونسي الراهن الذي أدلى خلاله سعيّد بهذا التصريح. نفي سعيّد لوجود مصطلح الدولة المدنية أثار موجة واسعة من الانتقادات خاصة من قبل زملائه في الاختصاص. لا يستطيع أيّ تونسي أن ينكر قدرة سعيّد على شدّ السامع بحديثه المسترسل المنظم وبأفكاره الواضحة، خاصة حين تكون القضية متصلة بملعبه المفضل؛ الإشكاليات القانونية والدستورية. حيث كان موقفه مثلا من تأخر تشكيل المحكمة الدستورية مفيدا ودقيقا، حين قال إن “أهمّ انعكاسات تأخر تركيز المحكمة الدستورية يتمثّل في مواصلة القضاء إصدار أحكام وفق قوانين لا تتماشى مع الدستور الجديد لتونس، في حين أنه لو كانت المحكمة الدستورية موجودة لأمكن لأي مواطن الدفع بعدم دستورية أي قانون على هامش قضية لا يتعلّق موضوعها الأصلي بدستورية القانون في حدّ ذاته ولكن باعتباره السند القانوني للبت في تلك القضية”. إجادة سعيّد للحديث بلغة عربية فصيحة وبنطق سليم، وإلمامه القانوني الواسع، تحولا مع الوقت إلى مادة للتندر وحتى التقليد من قبل بعض الممثلين والكوميديين، حيث وصل الأمر إلى تلقيبه بـ”الروبوت” لأنه كان يتحدث باسترسال عجيب وبلا توقف. ولم تثر تلك الأوصاف أو مشاهد تقليده في الإذاعات والتلفزيونات حفيظة الرجل، بل ربما زادت في شهرته وذيوع صيته. ولم يكن مستغربا أن تلتقط حركة النهضة التصريحات الأخيرة التي أدلى بها سعيّد والمتصلة خاصة بمسألة المساواة في الميراث والتي عبر فيها عن رفضه للفكرة، وقال في تصريح لإحدى الإذاعات الخاصة “النص القرآني واضح وغير قابل للتأويل. ومن يريد توريث أبنائه على قدم المساواة فعليه فعل ذلك في حياته وقبل وفاته”، وحتى إن أكد أنه لا تهمه مواقف النهضة من القضية، وأنه يرفض قطعيا توظيف موقفه لفائدة أيّ جهة، إلا أن تصريحه لاقى تجاوبا كبيرا من القواعد الإسلامية، بل التقطته حركة النهضة حين ركزت على المسافة المشتركة بينها وبين الرجل صاحب الشهرة الواسعة، حين قال القيادي في الحركة، عبداللطيف المكي، مؤخرا. إنه من غير المستبعد أن تدعم الحركة سعيّد خلال هذه الانتخابات. والمثير في التصريح الأخير للمكي انه جاء يوما واحدا قبل إعلان رئيس الحركة راشد الغنوشي، أن الحركة “قد” تدعم رئيس الحكومة يوسف الشاهد في الانتخابات الرئاسية. والواضح في هذا الباب أن النهضة تتوفر على لائحة طويلة من الرهانات، ما زالت لم تحسم منها بعدُ أيّ الجياد ستختار، أو ربما تجس نبض الرأي العام بتقطير الخيارات، في انتظار حسم المرشح، أو المرشحين، الذين ستعلن عن أسمائهم. سعيّد التقى مع الحركة في هذا المفترق. أعلن اعتزامه الترشح بشكل مستقل، وقدم أفكارا كثيرة مشتركة مع الحركة، لاقت هوى واسعا لدى القواعد. والنهضة ذاتها قد تخير عدم تقديم مرشح من داخلها، حتى تضمن جني الأرباح وتتفادى رياح الخسارات، ولذلك يظل سعيّد واحدا من خياراتها حتى وإن شدد على أنه يرفض توظيف تصريحاته من أيّ جهة. النهضة تبحث عن قواعدها في مختلف المرشحين، وسعيّد لن يكون بوسعه رفض دعم حركة بشعبية واسعة. البحث عن المرشح النظيف ويبقى سعيّد شخصية محبوبة وذائعة الصيت، متمكنا من اختصاصه القانوني والدستوري. ما يتيح له أن يكون مفيدا للبلاد في هذا الباب، ولا أحد ينازعه الحق في الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة أو غيرها، لكن ذلك لا يمنع من القول إن الشهرة والثقافة والإلمام القانوني تظل عوامل ضرورية لكنها غير كافية وغير محددة للوصول إلى سدة الرئاسة، وهي مسألة تحددها وتساهم في تحققها عوامل أخرى كثيرة، من أهمها أن الرجل ورغم مضي أكثر من سنة على إعلانه الترشح إلا انه لم يقدم حتى خطوطا عريضة لبرنامجه السياسي العام، ولعل ما يزيد من دوافع الريبة والتوجس لفئات واسعة من التونسيين هو مواقفه من بعض القضايا على غرار المساواة وغيرها. ولعل التقاءه مع النهضة في هذا المشترك، بقدر ما يوسع رصيده الشعبي بقدر ما يبدد حظوظه، لأن حركة النهضة في نهاية المطاف، لن تراهن على مرشح قد يتخذ موقفا حادا في قضية حساسة تمارس تجاهها الحركة حذرا كبيرا، بالنظر لاتصالها بالصورة التي تحرص منذ سنوات على تسويقها؛ بوصفها حزبا مدنيا تونسيا. النهضة لا توافق على المساواة في الميراث لكنها لن تجاهر برفضها في مواسم الانتخاب لان ذلك يصيب صورتها، في الداخل والخارج، بخدوش يصعب التئامها. بهذا المعنى سيكون قيس سعيّد، إن مضى في ترشحه، مرشحا مستقلا بلا سند سياسي كبير، لأن النهضة لن تمضي في دعمه، ومع ذلك فإنه سيحصل على الأصوات الإسلامية الغاضبة المتبرمة التي تبحث عن “مرشح نظيف” حتى وإن افتقد إلى البرنامج والحلول.

مشاركة :