بين الثابت والمتغير في نتائج الانتخابات الإسرائيلية وتداعياتها، يجد المراقب أن الأمر يتجاوز الراسخ التقليدي على مدار العقود الماضية، لتخرج إسرائيل بفكر يميني أكثر تطرفا، ومواطن إسرائيلي يقبل الابتزاز السياسي في مقابل تحقيق المزيد من النفوذ والتمدد. كشفت نتائج الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية عن اقتراب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من ولاية خامسة، بعدما نجح حزب الليكود في تكوين اتحاد مع أحزاب يمينية صغيرة لتحقق له أغلبية مريحة في الكنيست من أجل تشكيل الحكومة. حملت نتائج تيار اليمين في الانتخابات دلالات عدة لها أصداء محلية وعالمية، لاسيما أنها كشفت عن تغير غير معتاد في سيكولوجية الناخب الإسرائيلي والمناخ السياسي العام. مال الإسرائيليون نحو حكومة يمينية شعبوية تتبنى خطابا متطرفا في العموم، ونجحت عبر أهداف البرنامج الانتخابي المتشدد مثل رفع العلم الإسرائيلي بشكل دائم على الحرم القدسي وتشييد معبد داخل الحرم في مغازلة المواطنين لاجتذاب أصواتهم بسهولة. ويقول الخبير في الشؤون الإسرائيلية رافع بن عاشور، إن حزب الليكود سار على خطى الولايات المتحدة في مخالفة القوانين الدولية بتقديم وعود دينية حول القدس والتعامل مع الحرم القدسي بصورة جذابة للمواطنين أصحاب الفكر اليميني الشعبوي. ويضيف في تصريحات لـ”العرب” أن فوز تيار اليمين لم يحمل مفاجأة، لكن نزوح الإسرائيليين بشكل كبير نحو مطالب أكثر تشددا مع الأقليات واتجاهات التعامل مع الفلسطينيين، أكد الهدم المبكر لأي بادرة سلام حقيقية. وتؤكد المؤشرات وجود نظرة مختلفة لدى المواطن الإسرائيلي تجاه فساد المسؤولين، لأن عدم نجاعة إثارة ملفات الفساد ضد نتنياهو والمقربين منه مثّل تقلبا في مزاج المجتمع الذي بات مستعدا لقبول حكومة مشبوهة طالما نفذت أفكارا ترسخ النفوذ الإسرائيلي على الأرض، وهو ما راهن عليه نتنياهو. ومن المتوقع ألاّ يضيع نتنياهو الكثير من الوقت كي يصدر قانونا يحصنه من استمرار الملاحقة القضائية حتى في حالة ظهور المزيد من الأدلة والشهود ضده، فقد خاض المعركة الانتخابية بضراوة، وكان يعي أن الاستمرار في الساحة السياسية بعد 13 عاما في مقعد رئيس الوزراء، ربما يسمح له بحصانة تنجيه من الملاحقات ويجعله يؤثر في الشهود وفي المنظومة برمتها. نسفت الانتخابات الإسرائيلية كذلك أوهام الارتكان إلى مراقبة الانتخابات وضمان حياد العملية الانتخابية، حيث تم رصد تجاوزات لم يتورع الليكود عن اللجوء إليها لأنه يعلم أن العقوبات عليها واهية وبلا قيمة تذكر. هذه المسألة رصدتها صحف محلية، منها صحيفة “يديعوت أحرونوت” التي كشفت عن وجود خلل واسع في العشرات من مراكز الاقتراع يتمثل في زيادة عدد المصوتين عن إجمالي عدد من له حق التصويت بمقدار وصل أحيانا إلى ستة أضعاف، وهو ما اعتبرته اللجنة المشرفة على الانتخابات خطأ تقنيا. ويرى البعض من المراقبين أن نتنياهو نجح في استخدام حيلة “النجدة هناك ذئب” لاستجداء ناخبيه لحشدهم للتصويت له كما حدث بالضبط في الانتخابات السابقة على طريقة الصياح بخطورة مواجهة تدفق العرب على صناديق الاقتراع، لكن في تلك المرة حذر من وصول سياسي يساري لمقعد رئيس الحكومة، والذي قد يفرط في حقوق الإسرائيليين أمام الفلسطينيين من وجهة نظره. وكشفت ملامح الانتخابات عن استمرار ذوبان اليسار في الحياة السياسية واختفائه من على المسرح الفاعل للأحداث، بعد أن تلقى حزب العمل اليساري، ومعه حزب ميرتس نتائج مهينة (6 مقاعد للأول وأربعة للثاني)، وكان الأول هو الحزب الحاكم في إسرائيل حتى ظهور مناحم بيجين على الساحة كرئيس وزراء يميني في عام 1977، ثم تبادل حزب العمل السلطة بندية مع اليمين في الثمانينات والتسعينات. ويوضح جمال الرفاعي أستاذ الفكر الصهيوني بجامعة عين شمس في القاهرة، أن إسرائيل تشهد تصاعدا ملحوظا في قوة الاتجاهات اليمينية، خاصة الدينية منها، وهو ما يعني المزيد من التطرف في المجتمع والتوجهات السياسية، وبالتالي انسداد الأفق أمام أي حلول إقليمية عادلة. ويلفت في تصريحات لـ”العرب” إلى أن الأمر يتعلق بالأمن، لأن كل تدهور أمني تواكبه قوة أكثر لمعسكر اليسار بوصفه الأقرب لإبرام معاهدة سلام شامل توفر الاستقرار. وطالما أن الأمن بالفعل تتوفر معالمه على الأرض فلا حاجة لليسار وفقا لمنطق الشارع الإسرائيلي، بل يمكن لليمين استغلال انكفاء الجانب الفلسطيني والعربي إلى حد بعيد على أولويات أخرى لحصد المزيد من المكاسب وانتزاع قدر أوسع من التمدد. وبات ترنح الصوت العربي داخل الكنيست نتيجة طبيعية ومتوقعة مع فشل عرب 48 في منع قانون القومية العنصري، أو أي من خطوات إسرائيل التوسعية الاستيطانية في القدس، ناهيك عن عدم تحقق أي من مطالب المساواة في الحقوق والميزانيات. وكل هذا تمت ترجمته في شكل أصوات تطالب بالمقاطعة، وانقسام بين قائمتين نجحتا بشق الأنفس في النهاية بدلا من أن تتجاوزا الـ24 مقعدا في الكنيست بشكل يوازي عدد السكان ومن لهم حق التصويت. لقد مثل التراجع الدراماتيكي لثالث أقوى حزب في إسرائيل في الانتخابات السابقة صدمة للكثيرين من المحللين العرب، لاسيما وأنه لم ينسق أحد بشكل كاف من الكتلتين المتصارعتين مع الأحزاب العربية. ولم تتم دراسة تشكيل ائتلاف محتمل يدعم فيه العرب الائتلاف من خارجه. وهو الترنح الذي أرجعته صحيفة “ها آرتس″ إلى التحريض الذي شنه نتنياهو في انتخابات عام 2015 ضد الناخبين العرب، وسيطرة الإحساس بالإبعاد واليأس على قطاع كبير من فلسطينيي الـ48 الذين لهم الحق في التصويت. وأثرت دعوات المقاطعة بالسلب كثيرا على نسب التصويت، وكان من الأجدى أن تكون هناك مقاطعة شاملة أو قائمة موحدة يساندها الجميع بإخلاص وهو ما لم يحدث. ورغم الفوز الحاسم لحزب الليكود، سوف يظل تنامي قوة الأحزاب “الحريدية” يفتح الباب للابتزاز، واحتمالية الانتقال في أي وقت للمعسكر المنافس لنتنياهو، وهو أمر يجعل من فرص إسقاط الحكومة الجديدة أمرا مطروحا منذ البداية على خلفية تباين وجهات النظر حول قانون التجنيد أو أمور تتعلق بمخصصات المدارس الدينية أو صلاحيات المتدينين والمحاكم الدينية في إبرام عقود الزواج والطلاق، وغيرها من القضايا الخلافية التي ترتبط فقط بفتاوى الحاخامات وليس برنامجا انتخابيا ثابتا. وتفرض هذه المعالم محددات تجعل مسيرة التفاوض مع أي حكومة إسرائيلية رهينة أفكار تيار من المعسكر الديني الذي قد يزايد وسط أنصاره على تيار منافس له على حساب المصالح الحيوية العربية التي تركز على التفاوض مع العلمانيين، مع ملاحظة تزايد احتمالات أعداد أعضاء الكنيست المتدينين مستقبلا نتيجة زيادة معدلات المواليد من المتدينين.
مشاركة :