أكد إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور أسامة بن عبدالله خياط، أن من أعظم خصائص هذا الدين وأجلها قدرًا وأعمقها أثرًا، أن الله تعالى رفع فيه الحرج عن الأمة، ووضع به عنها الآصار والأغلال التي كانت على الأمم من قبلها. وقال: لقد جاءت تشريعاته وأحكامه ميسرةً لا شطط فيها ولا غلو، ولا إسراف ولا مجاوزة لحد القصد والاعتدال، وإن الأخذ بما رخص الله لعباده وتفضل به عليهم، ليس لأجل ما فيها من رفع للحرج وتيسير على الأمة فحسب؛ بل لأن الأخذ بها أمر محبوب عند الله تعالى، (إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته). وأضاف في الخطبة التي ألقاها في المسجد الحرام اليوم: إذ سد بها أبواب التنطع، وأغلقت المسالك الموصلة إليه، وحظرت الأسباب الباعثة عليه؛ لئلا يكبل المرء نفسه بما لم يأذن به الله ولم يشرعه رسوله صلوات الله وسلامه عليه، فيتحجر واسعًا، ويضيق رحّبًا، ويعسّر يسيرًا، وكم في كتاب ربنا وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من مواضع رفع فيها الحرج عن الأمة، وشرع لها من التيسير ما يجعل المستمسكين بنهجه أسعد الناس وأهداهم سبيلًا". وأردف: في سياق البيان لأحكام التطهر من الحدثين الأصغر والأكبر، وعقب الإرشاد إلى مشروعية التيمم عند تعذر استعمال الماء أو فقدانه، إمعانًا في التيسير على المكلفين، ورفع الحرج عنهم، وإشعارًا بوجود الرخصة عند تحقق المشقة. وتابع: على النقيض من حال بني إسرائيل، الذين أثقلت كواهلهم الآصار والأغلال التي كانت عليهم في شريعتهم، كتحريم الأكل من الغنائم، وقتل النفس الآثمة في التوبة، وقرض النجاسة من الثياب، وما ذلك إلا لفضل هذه الأمة المرحومة التي جعلها الله وسطًا بين الأمم، كما قال عز من قائل: {وكذلك جعلناكم أمةً وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا...} الآية. وقال "خياط": الوسط هو كما قال العلامة ابن كثير: "الخيار والأجود، كما يقال: قريش أوسط العرب نسبًا ودارًا؛ أي: خيرها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطًا في قومه، أي: أشرفهم نسبًا، ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات، وهي العصر كما ثبت في الصحاح وغيرها. ولما جعل الله هذه الأمة وسطًا خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب". وأضاف: رفع الحرج عن هذه الأمة المسلمة ملائم لفضلها وعدل شريعتها، وعموم رسالة نبيها، التي هي خاتمة الرسالات، مناسب لبقاء دينها وظهوره على الدين كله، كما قال سبحانه: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}؛ فهو لذا نهج رباني عام شامل، صالح للبشر كافةً، مهما تباينت درجة رقيهم، أو اختلفت مراتب حضارتهم، نهج لا تلتبس فيه السبل، ولا تلتوي فيه المسالك، يسّر الله للأمة فيه اتباعه، وأوضح لهم معالمه. وأردف: لرفع الحرج في الدين دلائل وشواهد واضحة؛ منها إباحة التيمم عند فقد الماء، وعند التأذي باستعمالة لمرض ونحوه، ومنها إباحة الصلاة قاعدًا للعاجز عن القيام، ومنها إباحة الفطر للمسافر والمريض والحامل والمرضع؛ ومنها قصر الصلاة الرباعية والجمع بين الصلاتين للمسافر، وسقوط الصلاة عن الحائض والنفساء، ومنها عدم وجوب الحج على من لم يستطع إليه سبيلًا، ومنها إباحة الأكل من الميتة للمضطر الذي أشرف على الهلاك وليس عنده ما يسد رمقه، إلى غير ذلك من الأمثلة مما يدخل في إطار التيسير، ويتم به رفع الحرج عن الأمة؛ فيكون المصير إليه أخذًا برخصة الله لعباده، ورفعًا للحرج، ودفعًا للعنت. وتابع: تلك قاعدة عامة وأصل يتفرع عنه حشد وافر من الفروع في العبادات والمعاملات، كله دائر في نطاق رفع الحرج وسلوك سبيل التيسير الذي أراد الله به عباده، وشرعه لهم، ورضيه منهم؛ فقال سبحانه: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}، ووجّه نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم الأمة إلى اتباعه فقال: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا). أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وقال "خياط": النبي محمد صلى الله عليه وسلم استمسك بنهج التيسير كلما عرض عليه أمران، في أحدهما يسر، وفي الآخر عسر، ما دام أنه قصي عن الإثم، سالم منه، بعيد عنه؛ غير أن لتحديد المشقة التي تجلب التيسير ضابطًا شرعيًّا يجب اعتباره؛ إذ ليس كل جهد يعد مشقةً، وليس كل مرض يبيح الأخذ برخصة الفطر، وليس كل جوع يرخص معه في أكل لحم الميتة؛ أما النوع الثاني: فهو المشقة الزائدة عن المعتاد حتى تضيق بها الصدور، وتستنفد الجهود، ويكون لها الأثر السيئ في نفس المرء أو ماله، وربما أفضت به إلى الانقطاع عن كثير من الأعمال النافعة التي يزكو بها عمله، ويعظم بها رصيده من الخير في مختلف ضروبه، فهذه المشقة هي التي مَنّ الله على الأمة برفعها عنهم تيسيرًا ورحمة وتخفيفًا، وهي المقصودة في نصوص الوحيين. وأضاف: رفع الحرج في الإسلام هو مزية من أوضح مزايا هذا الدين، ومنقبة من أعظم مناقبه، ومقصد من أجلّ مقاصده؛ فحريّ بدعاة الخير وحملة مشاعل الهداية، وأنصار الحق وورثة الأنبياء، أن تعظُم عنايتهم وتدأب جهودهم، في بيان هذا الباب الجليل من أبواب الهدى في أوساط المسلمين وغيرهم، قيامًا بواجب البيان الذي أخذه الله على أهل العلم، وذبًّا عن حياض هذا الدين، وذودًا عن حوزته؛ ليكون كما أراد الله له: منارًا للمدلجين، وضياءً للسالكين، ودليلًا للحائرين، وليكون في الأخذ به رفع الحرج والآصار والأغلال، وإقامة معالم الحنيفية السمحة.. وصدق الله إذ يقول: {وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قِبَل وفي هذا ليكون الرسول شهيدًا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير}.
مشاركة :