الشارقة: علاء الدين محمود يدوّن الناقد وعالم اللسانيات الفرنسي الكبير رولان بارت «1915- 1980م» بأسى وحزن شديد، أوجاعه على فراق والدته، ذلك الحدث الأليم الذي ظل مسيطراً عليه، بعد أن بلغ من الكبر مبلغاً، فقد كانت هي بالنسبة له كل شيء، فقد مات الأب وهو صغير فصارت هي السند والمعين، أخذته بيد قوية محبّة إلى بوابات الحياة منذ الصرخة الأولى، لقد ماتت وهو في الثانية والستين، ومنذ ذاك وقع في فخ الأحزان والحيرة. يأتي كتاب «يوميات الحداد» إعداد وتقديم «ناتالي ليجير» بترجمة إيناس صادق، على شكل دفقات شعورية وجدانية، سكبها بارت في أوقات متفرقة منذ أن توفيت والدته «هنرييت بارت» عام 1977، وهي في الرابعة والثمانين من العمر، الكتاب يتكون من مقطوعات موزعة على 330 بطاقة تحمل أغلبيتها تاريخ كتابتها، هذه البطاقات حملت مشاعر الفقد، وهول الخبر الذي وقع عليه مدوياً وظل لوقت وهو ما بين مكذّب ومصدّق، كانت مشاعر مضطربة بالفعل، فهي تجربة تحمل كل التفاصيل الغريبة بالنسبة له، لقد سيطر عليه وفاة أمه بشكل كبير، كان الحدث بمثابة صدمة أجّلت لديه كل فعل ومشروع كتابي، إلى أن لحق بها بعد ثلاث سنوات. تتميز هذه الشذرات والكتابات المتفرقة بالصدق والجمال، خاصة فيما يتعلق بوصف الحياة التي عاشاها معاً، فبذل الرجل في الوصف إبداعاً ساحراً وإن كان حزيناً، فأنتج مقاطع سيكون مصيرها الخلود في القلوب، لأنها بلغتها العاطفية المؤثرة تخاطب الأفئدة بالفعل لوقعها القوي، ومن تلك المقاطع المؤثرة نقرأ: «في المكان الذي كانت تحتله في الغرفة حيث كانت تعاني من المرض، وحيث فارقت الحياة وحيث أسكن الآن، والجدار الذي كان يستند عليه سريرها أضع أيقونة باستمرار من أجل ذكراها فقط، ولم أزل أضع الأزهار باستمرار على إحدى طاولات المنزل. ووصل الأمر إلى أنني فقدت أي رغبة في السفر كي أكون قريباً من هذا المكان وكي لا تذبل الزهور أبداً». ولكن قدر الزهور أن تزبل لأن تلك هي الحياة، تعدنا بالأوجاع بعد فرح يطول أو يقصر، وبلحظات الفراق بعد حياة عامرة مترعة بالحب وروح الوحدة والتآلف. ويذوب بارت في وصف أمه وجداً وحباً، فتتناثر كلماته على كراسته، التي ما عادت تسع سوى هذا الحدث الأليم، إن بارت يصف وجه أمه المضيء فيبدع في الوصف، وتحضر المفارقة هنا، حيث جاء موت والدته وهو في قمة جاهزيته لإصدار عمله العظيم «الغرفة المضيئة»، ولم يكن ذلك الكتاب حول التأمل في التصوير الفوتوغرافي ودلالاته؛ إلا نتاج ذلك التحديق لبارت في وجه أمه الملائكي في إحدى صورها، هذا الوجه الذي ألهمه بمؤلَّف وجد اهتماماً عالمياً، فالكتاب لم يتناول الصورة من الوجهة التاريخية أو التقنية، بل يغوص من خلاله بارت في قراءة ملامح الصورة الفوتوغرافية مستقصياً أوجه سحرها وفتنتها، وهو يعكس بالفعل مدى تأثير أمه عليه، لذلك وبمثل ما كانت والدته مصدراً للإلهام في كتاباته، فقد توقف هذا المصدر ونضب المعين بموتها، فلم يعد قادراً على الكتابة، لم يستطع أن يستمر في عشقه الكبير، لأن من كان يقف وراء هذا الحب قد رحل، ليصبح التدوين للذكريات التي تلوح في أفقه بمثابة الحياة القصيرة التي عاشها بارت بعد الفراغ الكبير الذي أحدثه موت الأم، ومن هذه المقاطع التي تعبر عن ذلك، ما حملته إحدى البطاقات والتي نقرأ فيها: «أعيش دون أن أولي أي اهتمام بما سأتركه للخلف بعدي، وبدون أي رغبة أن تتم قراءة أعمالي لاحقاً، ودون أي تفكير بأن أصبح صرحاً تاريخياً». ثم يضيف: «لكنني لا أستطيع أن أتحمّل نفس المصير بالنسبة لأمي»، لقد صارت صورة أمه والذكريات معها، هي هدف الكتابة، فيُمعن في الوصف، عن وجهها السماوي. لقد كانت كل كتاباته السابقة تحمل اتجاهاً معيناً، يعبر عن رؤيته الفكرية والنقدية، بينما جاءت مقاطعه عن أمه بمثابة أسلوب جديد مختلف، هي اللحظة التي ترك فيها بارت مجالاً كتابياً ليقتحم بصورة قوية الجنس الأدبي في الكتابة، ولئن شاعت مقولة إن الناقد في الأصل هو مبدع فاشل، فها هو بارت الناقد يرمي بعيداً أدواته النقدية، ويدخل بصورة أمه المضيئة إلى رحاب الإبداع بتلك المقاطع الساحرة الفائقة الجمال. ويستدعي بارت في «يوميات الحداد»، العديد من الكتابات والروايات لمبدعين تحدثوا عن إحساس الفقد، وعبّروا عن مشاعر الحزن، ليستعير منها ويستلهمها في إحساس القلق الكبير لطفل في «الستين من عمره».
مشاركة :