لا شيء لدى المؤلف الدرامي البريطاني هارولد بنتر (1930-2008) يمكن أن يتم كما نتوقع، فالواقع لديه متعدد، متداخل، يفضي كل واحد منه إلى الآخر، والكائنات عنده غامضون، متجاذبون، متنافرون. في “التشكيلة”، المسرحية التي ألفها صاحب نوبل عام 1961، تقدم أربعة أشخاص يتجاذبون خيوط حكاية ذات تأويلات متعددة، امرأة وثلاثة رجال، واحتمالات عديدة لعلاقات ملتبسة. ما هي طبيعة تلك العلاقات التي تربط بين ستيلا وزوجها جيمس من جهة، وبين بيل وصديقه هنري من جهة ثانية، وبين الجميع في نهاية المطاف؟ ما هي الحوافز التي تدفعهم إلى سلوك يتراوح بين الرغبة والتوهم، الغيرة والحسد، الاحتقار وحب التسلّط؟ هذا العالم الذي يقع بين التجريد والواقع، بين الوجودي والافتراضي، بين الحقيقة ونظريات المؤامرة، هو الذي يقترحه المخرج لودوفيك لاغارد، في خلفية الـ”فيك نيوز” التي شاعت مع ترامب، للتأكيد على ما ذهب إليه بنتر من أن الحقيقة لا يمكن التثبت منها، ولا إقامة الدليل على وجودها. بنتر ينتقد خطابات المسرح الأقرب إلى الهذر، معلنا القطيعة مع المسرح الكلاسيكي الذي تغلب عليه الثرثرة يخيّل إلينا أحيانا أننا نعرف مسرحية قرأناها أو شاهدناها، ثم تظهر ترجمة جديدة، تفتح المجال لقراءة جديدة تكشف أعماقا لم نتبيّنها، وتسبر أغوارا لم نجد إلى سبرها سبيلا، فتُبدي ملامح غيّبتها القراءة الأولى، ذلك ما ينتاب من سبق أن شاهد هذه المسرحية، التي عرضت أول مرة في لندن عام 1961، ثم في باريس عام 1965، وموضوعها في الظاهر خيانة زوجية في أوساط الموضة، وبطلتها ستيلا، مصممة أزياء، اعترفت لزوجها جيمس بأنها خانته مع خياط شاب يدعى بيل صادفته خلال أحد الملتقيات، فينبري الزوج المخدوع في مضايقة بيل عبر الهاتف، ولكن صديقه هنري هو الذي يتولى الردّ، ليعلمه كيف أنقذ هذا الشاب من الانحراف. ما يعني أن العقدة في هذه المسرحية بسيطة، ولكن حلّها غائب، لا يُكشف عنه حتى نهاية المسرحية، بل إن المتفرج لا يكاد يعرف ماذا جرى بالضبط، لأن الواقع لدى بنتر لا وجود له، والأبطال يتنقلون في ما يشبه أرضا غير مأهولة، حيث لا تقول كلماتهم ماذا يفعلون، ولا من يكونون، بل إن الكلمات هنا لا تؤدي أي شيء، وكأنها مجرد عكاكيز للحفاظ على التوازن في فوضى العلاقات البشرية الملغزة، أو هي وسيلة لخلق ضجيج في صمت الفراغ المحيط، أو ربما للوقاية من تهديدها الغامض. قُسّم الركح إلى فضاءين، شقة في تشلسي حيث تقيم ستيلا مع زوجها جيمس، ومبيت في بلغرافيا بلندن حيث يعيش بيل مع صديقه هاري، وما بينهما كشك هاتف، لأن المسرحية تمضي على انطباق الوضعيات، بعضها فوق بعض. تعترف ستيلا لزوجها جيمس بخيانته ذات ليلة في فندق بمدينة ليدز، فيواجه الزوج بيل ليرغمه على الاعتراف بذنبه، غير أن الشاب يؤكد له في البداية أن ستيلا ابتدعت هذه الرواية، ثم يقر بأنه قبّلها فقط. هنا يجد جيمس نفسه واقعا في فخ خطاب يجعل اللغز أكثر غموضا، فإذا كان بيل مثليّا بدا الأمر عاديا، ولكن أنّى له أن يعرف علاقة هذا الشاب بصديقه هاري. حقيقة لا وجود لها حقيقة لا وجود لها وتنتهي المسرحية دون أن يزول اللبس، فيبدو كل واحد مقتنعا بالصيغة التي ترضيه كي لا يخسر المعركة، أبطال نراهم تارة يتحركون كل زوج على حدة، وطورا يلتقون ولكن مع تهديد ظاهر أو باطن، هذا الجو المتوتر الذي يثير القلق ينسج عبر فترات من الصمت يُعلَّق فيها كل شيء، فيبدو الأبطال منطوين على أنفسهم، متكتمين على أسرارهم، يقابلون بعضهم بعضا ببرود تام، أو بصخب داخلي حام، وبأكاذيب وغيرة تضطرم في النفوس. وفي ذلك نقد من بنتر لخطابات المسرح الأقرب إلى الهذر، وقطيعة مع المسرح الكلاسيكي الذي تغلب عليه الثرثرة، فهو يفضل غموض الجمل الزائدة عن الحاجة، وكأنه يتساءل عما يجنيه المرء حين يلح على التفسير والتبرير؟ ثمة لا محالة بعد سياسي وتاريخي في هذا النوع من المسرح، كيف يمكن مواصلة الحديث في مجتمع أثبت وحشيته، وتجلت للعيان أكثر رغباته تراجيدية؟ الرغبة هنا حاضرة مع الشخصيات الأربع، لدى الذكر والأنثى على حدّ سواء، لأجل النجاح الاجتماعي أو الموت، فالعلاقات عاطفية مثلما هي شرهة لأكل لحم البشر في الوقت ذاته. يستوقف المتفرج في هذا العرض توتر العلاقات، وأهمية المواجهة، مثلما يسترعي انتباهه ذلك الغليان الداخلي الذي عرف الممثلون كيف يعبرون عنه، بغير كلام، ما شكل في النهاية قراءة حديثة لعمل بنتر الذي يترك متلقيه متعطّشا لمعرفة حقيقة لا وجود لها.
مشاركة :