تقدر منظمة «اليونيسكو» اللغات الإنسانية التي انقرضت تماماً في القرن العشرين، بنحو 300 لغة. والمشكلة أن هذا الرقم سيبدو بسيطاً إزاء الرقم الصاعق الذي قدرته المنظمة للانقراض حتى عام 2050، وهو ثلاثة آلاف لغة، من بين ما مجموعه سبعة آلاف لغة محكية أو مكتوبة!في عام 2008، توفيت ماري سميث جون، آخر امرأة تتكلم لغة قبيلتها في ألاسكا، وهي لغة «إياك». وقبل وفاتها عن عمر تسعين عاماً، أعربت عن عدم ارتياحها وانزعاجها لكونها «الوحيدة التي تتكلم هذه اللغة». ووصفت «اليونيسكو» الأمر بأنه «كارثة حضارية وثقافية» أن تنقرض هذه اللغات المحدودة. وسارعت المنظمة الدولية إلى إصدار قواميس وتسجيلات أي لغة أوشكت على الاندثار، لحفظ تراث الشعوب والأمم والأقوام التي كانت تتكلم بها.وتتوزع خريطة «مقابر» اللغات غير الحيّة على القارات الخمس، فتوارت 14 لهجة في فرنسا، و40 في المائة من اللغات المحلية القديمة في روسيا، معظمها في سيبيريا، وأفغانستان، والهملايا، واليابان، وتايوان، والفلبين، والجزر المنعزلة في ماليزيا، وإندونيسيا، وبابوا غينيا الجديدة، وجزر سليمان، وفيجي، وكاليدونيا الجديدة، وميكرونيزيا، وبولينيزيا، وأستراليا، والمكسيك، والهنود الحمر في الولايات المتحدة. وهناك تهديدات حقيقية بزوال لغات أو لهجات في نيجيريا، ودول شرق أفريقيا، مثل إثيوبيا وكينيا وأوغندا والسودان؛ لكن بعض هذه الدول تبذل جهوداً مدعومة من «اليونيسكو» لإنقاذ وإعادة اعتبار بعض اللغات المحدودة، مثل الأمازيغية التي يتحدث بها البربر في الجزائر والمغرب. واعتبر المغرب اللغة الأمازيغية لغة ثانية تُدَرَّس في مدارسها مع العربية، للحفاظ على هذا الموروث. وذهب بعض علماء التنوع اللغوي إلى المطالبة بوضع الأقليات اللغوية في «محميات» جغرافية طبيعية، للحفاظ على إرثها الثقافي والاجتماعي!ومن طرائف اللغات أن في الصين لغة تدعى «نوشو»، وهي لغة يقتصر تداولها على النساء الصينيات، كلغة «سرية» لا يفهمها الرجال! وسبب ظهور هذه اللغة التي قاربت على الاندثار، أن التقاليد الصينية القديمة لم تكن تسمح بتعليم الإناث، فلجأن إلى ابتكار هذه اللغة السرية بينهن. إلا أن شيوع تعليمهن دفعهن إلى التخلي عنها، على الرغم من أن الحكومة الصينية جمعت تراثها الثقافي والحضاري والاجتماعي، وتعمل على إنجاز قاموس خاص بها، يتضمن معانيها وطريقة نطق كلماتها، بعد أن تم فك «الشفرة».وشهدت القاهرة في مارس (آذار) الماضي، أول مؤتمر دولي لترجمة ونشر المخطوطات السريانية، لفهم التراث العربي وجذوره السريانية الآرامية. ودعا المؤتمر العراق إلى إحياء دور المجمع العلمي العراقي في التواصل مع المتحدثين باللغة السريانية، من المسيحيين في العراق وسوريا ولبنان، وتشجيع فتح أقسام علمية جديدة في الجامعات لتدريس هذه اللغة وآدابها، بعد أن كادت تندثر في هذه الدول، بفعل عوامل العنف والهجرة التي شهدتها في العقود الأخيرة، ولجوء كثيرين إلى الولايات المتحدة وكندا ودول أوروبا الغربية وأستراليا؛ حيث تمسكوا باللغة السريانية، وتم تعميمها في الكنائس التي يرتادها اللاجئون في هذه الدول.اعتمدت اللهجتان البابلية والأشورية على كثير من مفردات اللغة السريانية (الآرامية) التي كانت سائدة في العراق القديم، منذ الألف الأول قبل الميلاد حتى سقوط بابل في القرن السادس قبل الميلاد. وورثت الحضارة البابلية من سابقتها السومرية الكتابة المسمارية. ومع توالي الحضارات وصولاً إلى الحضارة الإسلامية العربية، ذابت اللغة الآرامية في ثنايا اللغة العربية الجديدة، وما زال كثير من مفردات وتعابير اللغات السومرية والأكدية والآرامية قيد الاستخدام في اللهجات العراقية والسورية واللبنانية، حتى يومنا هذا.لا أريد الابتعاد كثيراً عن المؤتمر الدولي لترجمة ونشر المخطوطات السريانية في القاهرة، الذي حدثتكم عنه قبل سطور قليلة، وهو ثاني مؤتمر من نوعه تحتضنه مصر عن اللغة السريانية ومخطوطاتها. ومن أهم ما صدر عن المؤتمر، الذي شارك فيه 44 باحثاً من مصر والعراق وسوريا ولبنان ودول أخرى، التأكيد على التواصل مع مؤسسات تعليمية وبحثية أميركية وأوروبية وآسيوية، للحصول على أجهزة علمية ومختبرات وتقنيات لتسهيل قراءة المخطوطات القديمة وتحقيقها ونشرها، حفاظاً على هذه اللغة الحضارية القديمة، أسوة بما تم مع اللغة الهيروغليفية في مصر. وأشار أحد الباحثين إلى أن اللغة العربية تأخر ظهورها في شبه الجزيرة العربية إلى عام 328 م، وما لبثت أن أصبحت اللغة التي يتبارى بها الشعراء والخطباء، قبل أن تصبح لغة القرآن الكريم والحضارتين العربية والإسلامية إلى يومنا هذا.لقد التهمت السياسة معظم أعمارنا في العالم العربي، حتى صارت الهمَّ الأعظم، وآن الأوان، مع انقراض لغات كثيرة في العالم، أن نلتفت إلى لغتنا العربية الجميلة التي شابها كثير من التلوث النحوي واللفظي، وأن نرعى لهجاتنا المحلية ذات التاريخ العريق، مثل السريانية، والمندائية (لغة الصابئة)، والكردية (بلهجاتها المتعددة)، والتركمانية، والأرمنية، وغيرها من اللغات واللهجات التي يحدق بها خطر الاندثار. وينبغي أن ندرك أن التنوع اللغوي في أي وطن ليس دافعاً للانفصال، وخذوا الدرس من الولايات المتحدة التي تتحدث بثماني لغات، هي: الإنجليزية، والإسبانية، والصينية، والفرنسية، والتغلوغية (الفلبين)، والفيتنامية، والألمانية، والكورية، وعشرات اللغات الأخرى، مثل: العربية، والفارسية، والتركية، والأفريقية، والمكسيكية، التي يتم تداولها بين اللاجئين والمتجنسين من أصول أجنبية.خلال سنوات الحصار الاقتصادي الجائر على العراق، في التسعينات من القرن الماضي، شحّت الأغذية والأدوية ومعظم المستلزمات الأساسية للحياة العادية في أنحاء البلاد. وكان حصول المواطن على دجاجة واحدة أو طبق بيض «نصراً مؤزراً على الإمبريالية، ومدعاة للشموخ والفشخرة» وسط طوابير طويلة أمام الأسواق المركزية. وفي إحدى هذه «الصولات» حصل المواطن ميخائيل سركيس على دجاجة مستوردة من فرنسا، كان يأكل مثلها الإمبراطور نابليون بونابرت، خرج بعدها من بين أكداس البشر، وهو يهتف على طريقة الهوسات الشعبية: «إمبشلُخ بكثيثة... إمبشلُخ بكثيثة» أي باللغة السريانية: «هنئونا سنطبخ دجاجة بالبرغل»! وردد المواطنون من حوله الهتاف من دون أن يفهموا معناه. فكتبتُ مقالاً «ساخناً» عن هذه الواقعة، تحت عنوان ذلك الهتاف الساخر الذي تحول إلى «رمز» عن الأزمة الاقتصادية التي مرّت بها البلاد. وأخبرني أحد أصدقائي المسيحيين المهاجرين إلى ديترويت في الولايات المتحدة، أن الأيدي تناقلت قصة المقال إلى درجة أن راهب إحدى الكنائس هناك علق نص المقال، استثناءً، داخل برواز على أحد جدران الكنيسة!أريد أن أقول من وراء هذه الحكاية: يجب أن يفهم بعضنا لغات بعضنا الآخر في السرّاء والضرّاء، لنعيش في سلام.
مشاركة :