يرسم الفيلسوف والروائي والناقد الفرنسي جورج بتاي في كتابه “الأدب والشر”، الصادر حديثا عن دار أزمنة في عمّان، بترجمة الشاعرة والكاتبة المصرية رانيا خلاف، بورتريهات أدبية شيقة لثمانية أدباء بارزين هم إيميلي برونتي، بودلير، جول ميشيليه، ويليام بليك، ماركيز دو ساد، مارسيل بروست، كافكا، وجان جينيه. الأعماق الغريبة يعترف باتاي بأن هذه البورتريهات يكتنفها الغموض، فهي مكتوبة بأسلوب ملغز، وبمنطق من يمارس التمرد على تقاليد مجتمعه الفكرية في محاولاته لاستخلاص جوهر الأدب. ولا يكاد يبدأ تحليله لثيمة أدبية أو فلسفية حتى يشرع في فتح باب معرفي جديد، انطلاقا من رؤيته إلى الأدب بأنه ليس بريئا، وإنما مذنب وينبغي أن يعترف بذلك. وقد أراد البرهنة على أن الأدب عودة إلى الطفولة، ومن خلال الاعتراف فقط بتورطه في معرفة الشر يمكن له أن يتواصل على نحو كامل. وتقول المترجمة خلاف إن “لكتابة البورتريهات سحرا خاصا لا يدركه سوى من يعشق الأدب، أو تمرّس على العمل في الصحافة الأدبية: ذلك الغور الشائق في حيوات الآخرين والتنقيب عن المشترك والمختلف بين شخصيات برغم تباينها فهي تتقاطع في نقاط بشرية أليفة”. وتصف هذه البورتريهات بأنها مداخل معرفية لكتّاب نالوا حظا كبيرا من الشهرة بالفعل، “بمعنى أن القارئ لن يجد تاريخا مرجعيا مفصلا عن كل كاتب، لن يجد مفاتيح جاهزة للدخول إلى عالمه. إنها قراءة فلسفية، أدبية ونفسية عن كتّاب بعينهم كان للشر دور في تشكيل تجربتهم الأدبية والحسية. إنها رؤية جديدة للشر”. يرى باتاي أن إيميلي برونتي استطاعت سبر غور الشر في روايتها “مرتفعات ويذرنج”، التي تثير مسألة الشر في علاقته بالعاطفة، وكأن الشر هو أكثر الوسائل قوة في فضح العاطفة. وإذ يستثني الشكل السادي للرذيلة، فإنه يؤكد أن الشر، كما يظهر في رواية برونتي، قد وصل إلى شكله الأمثل. وفي ما يتعلق بصاحب ديوان “أزهار الشر”، بودلير، يكتب باتاي أنه كان مسلحا بتوتر لا مثيل له، فقد تمكن من الاستفادة، بقدر استطاعته، من بطالته غير المبررة، ومنح التعبير عن النشوى والرعب شعره امتلاء مستمرا إلى الحدود القصوى للحسية الحرة، وأضفى عليه شكلا متعمقا من السمو والوضاعة. لقد توافقت حياته، المحاطة بأجواء الرذيلة، واستيائه الدائم من الحياة، بعد زواج أمه عقب وفاة أبيه، ورفضه وكراهيته للعالم، مع توتر إرادته التي رفضت قيود الخير بالطريقة ذاتها التي يرفض بها الرياضي ثقل الأثقال الحديدية.فنانو الشر يتخذ باتاي كتاب “الساحرة” لميشيليه مدخلا معرفيا لعالم هذا الكاتب والمؤرخ، فهو، أي الكتاب، يمنحه فرصة وضع مشكلة الشر بشكل متزن غير عاطفي، وإليه يعود الفضل في منح الأعياد الحمقاء القيمة التي تستحقها، والدفء الإنساني الذي لا يتعلق بالجسد بقدر تعلقه بالقلب، فالطقوس الخاصة بأعمال السحرة، التي تنتمي إلى العصور الوسطى، هي طقوس المقهورين (الفلاحين والأقنان، ضحايا نظام المسيطر)، وكانت تستكمل أديان القدماء. ويصف باتاي ويليام بليك بأنه كان شاعرا ثري المخيلة، وليس فيلسوفا في أي حال، تتميز أعماله بقيمة غامضة، مدهشة بتفردها، وبعدم اكتراثها بالقوانين العامة، وفيها شيء ما منحرف، ينتهك حدود الآخر، وهو ما رفعها إلى مستوى رفيع. ورغم أن بليك كان صاحب رؤية مغايرة، فإن تقدير معاصريه له كان مصحوبا بتحفظات، بل إنهم كانوا يبقونه في خلفية المشهد الأدبي، متهمين إياه بأنه “مخبول”. وعن ماركيز دو ساد يقول باتاي إنه، رغم كونه ماديا بشكل مؤكد، فإن ذلك لم يسعفه في حل مشكلته المتعلقة بالشر الذي أحبه، والخير الذي أدانه، فقد أحب الشر، وكرّس أعماله كلها لكي يجعله أمرا مرغوبا فيه، وكان غير قادر على إدانته أو تسويغه. النقطة الوحيدة التي كان دو ساد متيقنا بشأنها كانت أن لا شيء يستحق العقاب، أو في الأقل العقاب الإنساني، حيث أن القانون، وهو بارد بطبيعته، لا يمكنه أبدا الوصول إلى فهم تلك العواطف التي يمكن أن تسوّغ الفعل العنيف الذي يؤدي إلى القتل. ويطلق باتاي على مارسيل بروست اسم فنان الشر، ذلك أن الشر لم يكمن خارجه أبدا، وكان الأمر يبدو طبيعيا تماما بالنسبة إليه. وحيث أنه لم يندمج في فضيلة ما، كاحترام الموتى، أو إخلاص بنوي، لم يكن ليشعر بلذة تدنيسية في انتهاك قدسيتهما. ويضيف باتاي أن الساديين على شاكلة بروست هم كائنات شاعرية بكل معنى الكلمة، يتحلون بالفضيلة بشكل طبيعي، إلى درجة أن اللذة الحسية تبدو لهم أمرا سيئا، امتيازا يُمنح للأشرار. أما كافكا، فقد عرف، حسب باتاي، كيف ينكر نفسه ويفقدها فى ميكانيزم عمل غير مرض، لا لشيء سوى أن يرضي أباه، الذي كان متسلطا عليه، ومجتمعه المتحفظ. وهكذا، اختار النزوات لأبطاله، طفوليتهم ولامبالاتهم، تصرفاتهم الفضائحية وكذبهم الواضح. كان يريد عالما لا منطقيا، لا يحتفي بالتصنيف. ويتناول باتاي، في الفصل الأخير، شخصية جان جينيه وأعماله، ويناقش كتاب سارتر المطول عن حياته “القديس جينيه، الممثل والشهيد”. يقول باتاي إن جينيه عاش في بؤس، متسولا وسارقا، يمارس الجنس مع الجميع، ويخون أصدقاءه، ولم يكن ثمة شيء يمكن أن يوقفه، فقد اختار أن يمنح نفسه للشر، وقرر أن يتصرف على نحو سيء بقدر إمكانه في كل مناسبة، وحينما أدرك أن الجريمة الأسوأ ليست أن ترتكب شرورا فحسب، بل أن تعلن عن ارتكابها، كتب في السجن مسوغاته التي دعته إلى ممارسة الشر. وعدّ باتاي كتاب سارتر ليس فقط واحدا من أكثر الكتب ثراء في زمننا، وإنما أيضا أكثر أعماله تميزا، فلم يكتب من قبل أبدا نصا مذهلا كهذا، نصا يتملص بنشاط وقوة من تقاليد الفكر المألوفة.
مشاركة :