مارلين سلوم إحساس مختلف أن تتأمل المكان الذي جرت فيه أحداث مهمة وفاصلة خلال حقبة من التاريخ، ثم تنتقل من خارج المشهد إلى عمقه، فتصير أنت والمكان جزءاً من هذا الماضي، وجزءاً من الحكاية التي تروي قصة نضال شعب، لم يملك سوى الإيمان والإرادة والوحدة ليواجه المحتل. إحساس مختلف أن تقف على أرض خورفكان، تتأمل المدينة الملتحمة بالجبال والمتوائمة معها في الصلابة والشموخ، والمحتضنة للبحر وأسراره والمتأهبة لما تحمله إلى شواطئها أمواجه، ثم تفتح لك الشاشة دفاتر التاريخ لتلتحم بدورك مع المدينة، ويكبر فيك الفضول مع «خورفكان 1507»، الفيلم الحكاية، الجامع بين التوثيق والدراما، الذي يمضي بك سريعاً في رحلة النضال والألم، وينتهي قبل أن تشبع من الحكاية، ولديك رغبة شديدة في معرفة المزيد. «خورفكان 1507» فيلم يأخذك لتعيش الحدث بتفاصيله، تشاهد المأساة والنضال، وحكاية شعب قاوم ورفض الاستسلام للمحتل الغازي، وهو لا يملك سوى الإيمان والعزيمة والوحدة. هو مستوحى من كتاب صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، «مقاومة خورفكان للغزو البرتغالي سبتمبر 1507»، مصنوع بإتقان وحرفية، فتشعر بأنك جزء منه، تعيشه بإحساسك، وأنت مدرك جيداً أنه سيبقى محفوراً في ذاكرتك، لاسيما وأنه يرسم لك صورة عن أرض وشعب وحقائق من صنع الواقع لا الخيال. إنه الماضي الذي ترويه لك الشاشة بأسلوب درامي مشوق، عن الحملة البرتغالية الثالثة التي شنّها أسطول القائد البحري والسياسي ألفونسو دي ألبوكيرك مستهدفاً بها منطقة الخليج العربي وسواحل الدولة الشرقية من عام 1504 إلى 1508. لا بد من تدخل الخيال في الحياكة الفنية، ولا بد من لمسات إخراجية عالية الجودة، كي تمنح الرواية حقها ويصل العمل إلى الجمهور بسلاسة ووضوح، ويترك أثراً في النفوس. ومن يشاهد الفيلم، يرغب في إعادة الشريط إلى الوراء للتوقف عند بعض اللقطات، ويتمنى أن يشاهده الأبناء، لما فيه من دروس في الوطنية والحكمة في التعامل مع الأزمات، والمعنى الحقيقي للفداء والاستشهاد في سبيل حماية الأرض والعرض والدفاع عن الحق، يقابله إبراز الوجه الحقيقي للإرهاب وأدواته. تنطلق الأحداث من قلب المدينة النابض بالحياة؛ الطفل علي يرغب في مرافقة صديقه عمر لرعي الأغنام، ووالده (يجسده محمد العامري) الذي يعمل في صناعة القوارب وإصلاحها، تشتكي زوجته من كثرة تطوعه لمساعدة أهالي خورفكان في كل ما يحتاجونه، لدرجة أنها بالكاد تراه. أبو محمد الحاج سليمان (يجسده أحمد الجسمي)، تعافى للتو، يخرج متكئاً على ابنيه للاطمئنان على حال خورفكان وأهلها، يشعر بشيء من القلق لأن الوالي لا يرى ضرورة لإقامة أسوار لحماية المدينة. وقتها كانت خورفكان، تابعة لمملكة هرمز، ويدير شؤونها الوالي التابع بدوره للمملكة، يعاونه محمود الهرمزي الذي يؤديه الدكتور حبيب غلوم. النص مكتوب بحرفية، يبتعد عن السرد القصصي، معتمداً على الحوار بين الشخصيات وتتابع الأحداث وتصاعدها بشكل تدريجي. ينطلق من البداية الهادئة، والحياة اليومية لأهل المنطقة، متعمداً تقديم صورة عامة تعريفية عن خورفكان، من خلال لقطات تكشف طبيعة المهن التي كانت موجودة، في أبي علي نرى مهنة الصيد وصناعة القوارب، بالإضافة إلى الكرم في الأخلاق و«الفزعة» لنجدة كل من يحتاج للمساعدة؛ علي وعمر يعبران في السوق فنرى المرأة التي تبيع المنتجات الزراعية، ثم ينطلقان لرعي الماشية، وبعدها نرى شباك الصيد والقوارب، والتجار يحملون البضائع.. تنتقل كاميرا المخرج العالمي الإيرلندي موريس سويني بين الشخصيات لتقدم لمحة سريعة عن طبيعة خورفكان، المدينة الهادئة المسالمة والتي كانت تحتضن قبائل محلية وبعضاً من أهالي الدول المجاورة مثل الهند والساحل الفارسي، والكل يعيش فيها بأمان ودون أي تمييز. المشاهد تعكس أيضاً طبيعة أهل المدينة وطيبتهم وحسن تعاملهم مع القادمين إليهم، منها مثلاً الحوار البسيط بين والد علي ومحيي الدين التاجر الهندي الذي دأب على القدوم إلى خورفكان، ويتحدث عن تجارة الخيول العربية الأصيلة ومميزاتها. الحوار بالفصحى، ما يسهل عملية تسويق الفيلم، وقد تم إنتاجه بنسختين عربية وإنجليزية. بعد الجولة بين أبرز شخصيات العمل، يبدأ التصعيد مع صوت يشبه الانفجار، يربك أهل المدينة ويدفعهم للقاء عند الشاطئ علهم يفهمون من أين يأتي الصوت. الجواب يأتي بمشهد هروب قارب صيد (سنبوك) إثر تعرضه لقصف بمدفعية سفن برتغالية. يحاول الهرب شمالاً باتجاه هرمز، لكنه يتعمد الانعطاف خلف جزيرة صيرة خورفكان (جزيرة القرش حالياً) ليحذر الأهالي من قدوم البرتغاليين. ثم يبدأ الأسطول في الظهور، سفينة تلو الأخرى. إنه أسطول القائد البرتغالي ألفونسو دي البوكيرك، (يجسده رشيد عشاف) ومعه مجموعة من النبلاء من ضمنهم دو كامبو (قيس الشيخ نجيب) المتعاطف مع السكان الأبرياء. ما إن رأت عينا البوكيرك المدينة الساحلية، حتى قرر غزوها لبسط سلطة البرتغال في المنطقة. تأهب سكان خورفكان، منهم من أراد رفع الراية البيضاء للاستسلام مبكراً، لكنه واجه رفضاً من السكان، الذين فضلوا المواجهة والدفاع عن أرضهم وبيوتهم. يوسف المسؤول عن أمن خورفكان، يسرع لإخبار الوالي بأن 6 سفن برتغالية تتجه نحو شاطئهم، فيقرر هذا الأخير النجاة بنفسه لإبلاغ حاكم هرمز وطلب النجدة، تاركاً الهرمزي نائباً عنه، إلا أن هذا الأخير يختبئ في القلعة، وعندما تدق ساعة الحسم، يستسلم للغزاة، مجسداً النفاق والخيانة، مقدماً فروض الطاعة ل البوكيرك، مادحاً إياه باعتباره «الإسكندر» بعظمته. في الصباح بدأ القصف والإنزال، ثم اجتياح المدينة، قابلته مقاومة شرسة من السكان الذين لم يملكوا سوى الوسائل البسيطة للدفاع عن أنفسهم، والتخطيط الذكي لاستدراج البرتغاليين إلى الأحياء الضيقة. دي البوكيرك، كان عديم الإنسانية، تعمد تعذيب السكان عبر صلْم الآذان، وجدع الأنوف، وأخذ الشباب أسرى لخدمته في الأسطول. وحين عرف بوصول إمدادات للمساعدة من المناطق المجاورة، أمر بسرق البيوت وإحراقها. نهاية الفيلم مفتوحة، تاركة المجال للمشاهد البحث عن الأحداث التالية، أو ربما تكون ملهمة لعمل آخر يكمل الرحلة مع المزيد من الأحداث في المنطقة. كل ممثل جاء في مكانه المناسب، وكل منهم تفنن في تقديم الشخصية، فبرزت جهود المجموعة، والتي ضمت من الأسماء بجانب من سبق ذكرهم، قاسم ملحو، والراحل حميد سمبيج، ومنصور الفيلي، وعبد الله بن حيدر، وعبد الرحمن الملا، ومحمد جمعة، وأشجان، وبدور، والطفلان عبدالرحمن (علي) وعبدالله الجرن (عمر). تعامل المخرج موريس سويني مع الفيلم، وهو أحد أبرع المخرجين لمثل هذه النوعية من الأفلام التاريخية، بذكاء معتمداً على التشويق، والدقة في تصوير التفاصيل والملامح، والصدق في المشاهد، والتصوير في خورفكان نفسها. أكثر من ثلاثمئة شخص ساهموا في تقديم هذا العمل، الذي أنتجته هيئة الشارقة للإذاعة والتلفزيون، ونفّذته شركة «جيت جو فيلمز ليميتد»، المتخصصة في الإنتاج السينمائي للأفلام التاريخية. والمفترض أن يتم عرضه للجمهور في الصالات الخريف المقبل، داخل الإمارات وفي عدد من دول الخليج. marlynsalloum@gmail.com
مشاركة :