إذا ما تخيلنا أن هناك لوحة لمُجمل أحداث العالم منذ بداية الإنسانية؛ سنراها ملحمة صاخبة ومتداخلة من: ثورات وانتكاسات، انتصارات وهزائم، أبطالًا وجبناء، نبلاء وخونة، قادة حربيون وزعماء سياسيون، علماء وفلاسفة. أول ما سنلحظه أن اللوحة تضجّ بتراجيديا إبادة البشر، وإيديولوجيات شرعنة القوة الغاشمة، فالعامل الحربى الحاسم المحمول فوق أفكار العنف المقننة، يفرض نفسه على مجمل الأحداث ويصبغها بحُمرة الدم القاني. وبامتداد خلفية مشاهد اللوحة المريعة، حتمًا سنرى «التاريخ»؛ وهو- فى الواقع- بطل جميع الأحداث ومحركها الأوحد، وإزاء ذلك؛ لا أجد هيئة ليُمثّل بها- التاريخ- فى اللوحة سوى أنه: وحشٌ أسطورى مرعب، عملاق مفتول العضلات، أنيابه عاجية، ومعقوفة مثل فيل الماموث، يُطبق بذراعيه الجبارين على دفّتى العالم. ولا ينفك الوحش- التاريخ- عن كونهِ متفردًا بذاته، عنيف وغامض، لا صديق دائم له، يؤازر القوى والماهر، يصطف مع المُنتصر، ولو كان خائنًا أو خسيسًا، فلا يقيم وزنًا لاعتبارات الشرف والنُبل: ماركوس أورليوس وبروتس لديه سيان. إذ يُغيِّر الواقع الثابت، ويقلبه من النقيض للنقيض، ثم يمنح صكوك السيادة، لصالح من أدرك اعتباراته- التاريخية- وتلاعب بها ليربح. إذ نراه بهيئته الأسطورية، يتقدم جيوش نبوخذ نصَّر الغازى، وهو يدمر أورشليم، ليرتد القائد مظفرًا إلى كلدان يسوق اليهود سبايا أذلاء، ثم ينقلب على سلالته الضعيفة ويحالف غريمه قورش. وإذا به يعاضد العباسي، وهو يؤلب الفرس على الأمويين، ويُقوِّض مُلكهم المترامى والذى سبق ومنحه لمعاوية. ولا يتخلى عن صرامة مبادئه، فيتحالف مع هولاكو لما وحَّدَ رعاع السهوب الأسيوية فى جيوشٍ نظامية، ولم ترده قداسة العلم المتحقق فى بغداد، عن تأييد الهمجية العاتية، ومكّن خان المغول من سحق الحاضرة العباسية. استخف كهنة بيزنطة حينما تساءلوا فى سذاجة «هل للملائكة أجنحة»، ولمّا انساق وراءهم الملك قسطنطين فى الجدل العقيم، راح للسلطان محمد الفاتح، ونصَبَ معه المدافع المجرية يدًا بيد، أعلى هضبة الأناضول، ليدُك أسوار القسطنطينية المنيعة. ثم يحتفى بحماية الطبيعة الجغرافية للجزر البريطانية، لما أغرقت عواصف بحر الشمال الأرمادا (الأساطيل) الإسبانية الغازية، ويمنح الملكة فيكتوريا تاج الهند، وحُكم 21 مليون كيلومتر مربع من سطح الكوكب. يتخلى عن نابليون لغروره، ليتركهُ يُهزم بين أطواد جبال الجليد فى روسيا لغروره، بعدما شدّ على يده فى غزو أوروبا كلها، عاقب هتلر على حماقته كونه لم يتعلم من درس نابليون، ثم يُجبر جورباتشوف المهزوز، على منح بوش الداهية القلم؛ ليوقع مرسوم تفكيك الاتحاد السوفيتي. غير أنه، مع مطلع القرن الحادى والعشرين، اضمحلت صورة التاريخ كوحشٍ أسطوري، وانمحى دوره الأصيل فى صياغة وبناء إمبراطوريات المستقبل. فوقف حائرًا أمام اختفاء نماذج الإمبراطوريات التقليدية الحاكمة للعالم التى عرفها منذ القِدَم، وإزاء تصدع النظام العالمى وانفراطه بين قوى سياسية عدة، أنزل سلاحه لانعدام فرص الحرب - كعامل حسم محتمل، دق التساؤل رأسه: ماذا حدث، من يحكم هذا العالم الجديد!؟ فنجاوبه: وفق الانشطار المعرفى اللامحدود عبر شبكة الإنترنت، وتقنيات المعرفة الحديثة، لا يمكن بأى حال من الأحوال اعتبار قوة الجيوش وحدها عاملا مؤثرا بمفرده للسيطرة على العالم الجديد. إنما؛ يُحكم العالم الراهن عبر كيانات متباينة فى كل مناحى الحَيَاة المستحدثة، وهى بالضرورة بعيدة عن نطاق الحكومات، الآخذة فى التقلص؛ فمحرك البحث الجبار «جوجل» يحكُم المعرفة بشكل شبه كامل، اللغة الإنجليزية باعتبارها لغة البحث العلمى الأولى فى العالم، تمنح بريطانيا قوة معنوية تُضاهى إمبراطوريتها الجغرافية السابقة.. الفيس بوك، وتويتر، يتحكمون فى المزاج العالمى بشكل كامل، قادرون على صياغة الفكر، وتوجيه الرأى العام الدولي، بشكل مذهل لا يمكن تقليصه أو السيطرة عليه. فلم تعد الكتائب حربية بل صارت إلكترونية تهدم الحكومات، والشخصيات الاعتبارية، والعامة من وراء الشاشات وبلا طلقة واحدة. فعندما تتحول سُبل المعرفة من حكر خاص لمكتشفيها، إلى واقع عالمى شائع متاح للجميع، فالذى يحكم العالم، هو القادر على تطوير هذا الكم الهائل من المعرفة الشائعة للإنسانية والاستفادة منها، وليس من يملكها ملكية مجردة.إذًا.. هل مات التاريخ، وانتهى ذلك الوحش المريع؟ الإجابة قطعًا: لا؛ فالتاريخ يموت بنهاية الإنسانية على الأرض، ولكنه بذكائه الفذ أدرك مفردات العصر؛ فهو يُجرى الآن عمليات التجميل اللازمة وبشكل عاجل؛ لكى يعود لمكانته السابقة سريعا: يقتلع أنيابه المرعبة القديمة، ليقوم بعمل «Hollywood smile»، وخلع سترته العسكرية، متخليًا عن درعه وقنابله، ليصعد إلى المسرح ويرقص مع المغنى العالمى- المراهق؛ جاستن بيبر!
مشاركة :