شعراء يدفعون رشوة إلى كل من يستضيفهم ويحتفي بهم

  • 4/19/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

لا يضطر ضيوف المهرجانات الكبرى، كان وبرلين وفينيسيا، إلى التغزل بجمال هذه المدن، أو تملّق الشعب في فرنسا وألمانيا وإيطاليا. ولا يملك ضيف أن يمنّ على مواطني هذه الدول بحضوره من أجل تكريمه؛ فكبرياء المهرجان والدولة والشعب يستعصي على التفاعل مع رشوة كلامية من ضيوف تشرّفهم الدعوة. على العكس من إعجاب يحظى به نجوم أجانب، في مهرجان القاهرة السينمائي مثلا؛ لأنهم عقب تكريمهم ينجحون في بدء كلامهم بتحية "السلام عليكم"، أو ينهون الكلام بلغة عربية متعثرة متآكلة الحروف، قائلين "مصر أم الدنيا"، وهي كلمات لا يفهمون معناها، ويحفظونها بصعوبة، أو يقرأونها بشكل آلي من ورقة مكتوبة بحروف أجنبية. رشوة مقفاة السلوك الأخير يليق بمهرجانات وأنشطة ثقافية تتحسس خطواتها الأولى، وينفق عليها ببذخ، طمعا في نيل شرعية البداية. ولا تحتاج البصرة العظيمة، الحاضرة الأكثر قدما من الدولة العراقية، إلى نفاق يجعل ضيفا قطع آلاف الكيلومترات، ينشد كلاما كالكلام في مديح المدينة. وفي رحاب الشعر يأخذ الكلام الخطابي الإنشائي صفة "قصيدة"، لأنه استوفى الوزن الخليلي. فماذا يبقى من أشعار تشابهت علينا، ونظمت عن عمد، بفعل شاعر مع سبق الإصرار، لعلمه برواج هذه "البضاعة" واستحسان هذا الجمهور وطربه بالشعر السلفي جماليا وطائفيا؟ كيف نصدّق شاعرا يزور العراق مثلا، للمرة الأولى، حين يلقي في اليوم التالي لوصوله قصيدة موزونة يتغنى فيها بجمال مدينة لم يرها بعد، إلا من غرفته بالفندق؟ وهل يشارك بهذه "القصيدة" في محفل شعري بدولة أخرى، أم يصطنع قصيدة تناسب المقام الجديد؟ باختصار، ماذا يبقى من الشعر المنبري المرهق برسالة مباشرة؟ وهل يرضى عنه "الشاعر" حين تصفو نفسه، وينتهي أثر مقايضة الدعوة بالرشوة المقفاة، ويغتسل من خطايا المنصة وغبار الطريق؟من بين ركام المديح والهجاء بقيت آثار قليلة ارتقت بالنظم إلى منطق ومنطقة الشعر، وأصحابها كبار لا يرضون للشعر بما هو أقل من الشعر. افتدى كعب بن زهير روحه بعد أن أهدر النبي دمه، وضاقت عليه الأرض ولم يعد من استسلامه مفرّ، فأسلم نفسه إلى النبي، وأنشد في المسجد قصيدته "بانت سعاد" فصمدت؛ لأنه لم يقدم تنازلا عن شرط الفن، حتى في موضع التماس العفو: أُنبئتُ أن رسول الله أوعدني/ والعفو عند رسول الله مأمولُ/ وقد أتيت رسول الله معتذرا/ والعذر عند رسول الله مقبولُ. ولكن الشاعر الكبير، قبل وصوله إلى هذا الغرض، حافظ على الوفاء لتقاليد القصيدة، وبدأ بمقدمة غزلية طويلة، لا أتخيل أن يلقى مثلها الآن بين يديْ إمام مسجد بعد الصلاة: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول/ متيّمٌ إثرَها لم يجز مكبولُ/ وما سعاد غداة البين إذ رحلوا/ إلا أغنّ غضيض الطّرف مكحولُ/ هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة/ لا يُشتكى قصرٌ منها ولا طولُ/ تجلو عوارضَ ذي ظَلم إذا ابتسمت/ كأنه منهل بالرّاح معلولُ. في أغلب العصور كتب البعض قصائد في مناسبات، اختيارا أو اضطرارا وخضوعا لضعف إنساني، ولم يتجاوز عمر القصائد حدود المناسبة، فالشعر يرفض مبدأ الانتفاع اللحظي والتملق والمداهنة. يمكن لمن لا يعرف كافور الإخشيدي ونقمة المتنبي عليه أن يخرج من قصيدته بمتعة وحكمة وابتسامة، وهو يردد: العبد ليس لحرّ صالحٍ بأخ/ لو أنه في ثياب الحر مولود/ لا تشتر العبد إلا والعصا معه/ إن العبيد لأنجاس مناكيد. دنقل والمربد لأمل دنقل قصائد لم يضمها إلى أي من دواوينه، قصيدة عن طه حسين، وقصيدة "بكائية.. إلى تل الزعتر" عام 1977، وقصيدة في رثاء وزير الثقافة المصري يوسف السباعي عقب اغتياله في فبراير 1978. ولم يكن السباعي اليميني يخفي كراهيته لليسار، وبادله اليسار نفورا بنفور. ولكن له أيادي بيضاء على البعض، ومنهم أمل دنقل الذي نال "منحة التفرغ"، وأمّن له وظيفة وهمية على الورق في "منظمة التضامن الأفرو آسيوي"، واقتصر عمله على الذهاب مرة في الشهر لتقاضي الراتب. من هذا الضعف الإنساني يمكن استيعاب أن يكتب الشاعر الغاضب دائما قصيدة عن السباعي الذي رافق أنور السادات في زيارته إلى العدو الصهيوني في نوفمبر 1977. وأدت القصيدة مهمتها الوفائية، واختفى أثرها من دواوين الشاعر الذي فوجئ ببيان غاضب لشعراء شبان يرفضون "مديح" كاتب رجعي، فكيف يكتب شاعر في نوفمبر 1976 قصيدته التي اشتهرت بعنوان "لا تصالح"، ثم يرثي وزيرا قتل بسبب اشتراكه في هذا التصالح؟ ثم طوى الزمن كل شيء. بيان الشعراء والقصيدة والسباعي، وبقي أمل دنقل. فهل تحتاج البصرة والعراق إلى قوافل من الشعراء مهمتهم كيل المديح؟أي خيال في قول ضيف: بعمق جرحك يا بغداد شامخة/ والواقفون بغير العزة انكسروا وقول ضيف ثان: من لم يرَ البصرة الفيحاء يا ولدي/ يموت من حسرة لو عاش في رغدِ. وقول ضيف ثالث: لبغداد حنّت بنات حنيني/ ونصب عيوني شموخ العراق/ أنا من هنا رغم أني هناك/ يردد شعري: عراق عراق. وقول ضيف رابع: أنا العراق ونبض الشام دجلته/ والداعشيون خانوا الريف والمدنا. في عام 2017 حضرت مهرجان المربد (دورة الشاعر مهدي محمد علي)، وبعد أن قرأت شعره فاجأني بأنه أكثر معاصرة من مربديين استظلوا باسمه. وفي مهرجان المربد الثالث والثلاثين (دورة الشاعر حسين عبداللطيف مارس 2019)، قفز الكثيرون إلى الوراء قرونا، ووقفوا على أطلال كربلاء. ولو مروا بقرية جيكور وابتلت أقدامهم بمياه نهر بويب، لأحرجهم السياب الأكثر حداثة. أكره المأثورات، وأضطر إلى ذكر مقولة "ما أشبه الليلة بالبارحة"، فما أسهل تدبيج نص، ويمكن استبدال الدواعش والحشد المقدس وكربلاء والحسين والشهداء بقاموس الضيوف القدامى المشيدين بحراس البوابة الشرقية، وأم المعارك. مثل مصر، لا ينقص العراق تاريخ، هو مثقل بالتاريخ والأمجاد والانكسارات إلى درجة الوجع، ويمتاز العراق بقرب الأشياء على عكس الأبنية والتماثيل الصرحية الشامخة، فكل شيء عراقي في متناول الأيدي، وتستطيع مصافحة تماثيل الأعلام من دون أن تشب على قدميك، كما تلمس الشعر بقلبك في كل شيء، فلا يصح بيع الشعر في حديقة الشعراء.

مشاركة :