لم يعثر أمين معلوف على التفاهم والنقاش الذي كان سمة تحضر في المجال العام العربي قبل عام 1967. الروائي والمفكر وعضو الأكاديمية الفرنسية طرح أحدث كتبه: «غرق الحضارات»، أطروحة صادمة يعتبرها رداً غير مباشرٍ على نبوءة هنتنغتون حول «صراع الحضارات». في حوارٍ أجري معه في 13 أبريل (نيسان) الجاري، حول الكتاب شرح العديد من الأفكار التي تبنّاها، من ذلك انقراض التفاهم العمومي، فالحوارات التي تدور بين الناس في «رأس بيروت» انتقلت من الكلمات المتفاهمة المتسائلة إلى سيلٍ من الرصاص الطائش والمجازر الدموية، المؤلف شاهد بعينه وبالصدفة حادثة «عين الرمانة» في 13 أبريل 1975. معلوف مواظب على التداخل في المجال الثقافي الحضاري، ومصائر الأمم والشعوب. قبل عقدين طرح كتابه: «الهويات القاتلة» وبعده بعشر سنواتٍ أصدر كتابه: «اختلال العالم»، والآن يفاجئ المتابعين بعنوانٍ صاعق: «غرق الحضارات». «لقد عرفتُ عالماً عربياً مختلفاً عن الذي كان يسود فيه النقاش العام مثل بقية العالم، كيف لا يمكننا أن نتصور الأسوأ لمآل المغامرة الإنسانية، عندما يتحول ورثة الحضارات الكبرى وأصحاب الأحلام الكونية إلى قبائل غاضبة وثأرية».. يسأل معلوف في الكتاب عن سر الخلل والعطل في التفاهم والتواصل إما داخل الحضارة الواحدة، أو بين الحضارات المتصارعة في هذا العالم، لم تعد بالنسبة إليه مرحلة من الصراع أو سوء التفاهم، ولا هي عداوة تعتمد على النفي والإنكار للآخر، وإنما الحضارات كلها في حالة من الغرق من دون أي فرصة للنجاة، أما العرب يضيف معلوف: «فلم ينهضوا من بعد هزيمتهم من قبل إسرائيل، وإسرائيل لم تتمكن من الإفلات من فخ الانتصار لأنها اعتبرت أنها غير مضطرة لتقديم تنازلات، العرب كانوا ضحية الهزيمة وإسرائيل كانت ضحية الانتصار»! الخلاصة التي طرحها معلوف في «غرق الحضارات» تبدو غاية في التشاؤم، ولكنها لم تتجاوز تحليل الواقع كما هو بكل دماماته وأعطاله وأمراضه. والفكرة الأساسية أن الحديث عن صراع الحضارات بالمعنى الذي كتبه هنتنغتون، إنما يحيل إلى حيوية محتملة قد تنتج عن ذلك الصراع إذا ما فعّلنا الديالكتيك الجدلي، ولكن حين تنحصر حال الحضارات بالتلاشي، بل والغرق فإننا أمام منعطف خطير في هذا العالم يحتم على الجميع الانتباه إليه، وهو بشكلٍ مختصر يعتمد على الفشل الكبير من أي احتمالٍ للتعايش أو التفاهم بين جميع الحضارات والمجتمعات والأديان. الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الدكتور محمد العيسى يعلم مستوى الخطر الذي يهدد العالم جراء نمو مشاعر الغضب بين الحضارات، وبين أتباع الأديان، وفي محاضرة له بجامعة كازان الحكومية في جمهورية تتارستان، يدعم ضمن المؤسسة فكرة الحوار بين أتباع الأديان، ويطالب بتجاوز نظرية «الصراع بين الحضارات»، باعتبار العقلاء من البشرية والحكماء في شتى الحضارات والأديان قادرين على استيعاب الأخطار المهددة بالحروب، أو تنامي مشاعر الغضب والانتقام، فالأرض ستبقى مسرحاً متاحاً لحضور جميع الحضارات والديانات على هذا الكوكب. كل الأطروحات التي تتحدث عن صراع الحضارات، أو حوارها، أو غرقها، إنما تعيد التحذير من المشكلة الأبرز وهي معضلة زهو الفرد بما يمتلكه من لغة وحضارة وحقائق وتاريخ بغية تصفية الآخر واغتياله، وهذا شامل لكل مشاعر الاصطفاء لدى جميع الشعوب بالعالم، هذا الزهو مخيف، هو الذي يدفع المتطرفين للحرب بين بعضهم بعضا، من القاتل في المسجد إلى مفجّر الكنيسة وانتحاري المقهى والذئب المنفرد ضد المعابد والمزارات، ولم يخطئ معلوف بنتيجة أساسية حين تحدث عن فقدان العالم لسلطة معنوية تكون محل تصديقٍ جامعٍ تثق به المجتمعات كلها على اختلافها، ولذلك فإن شرطها أن تكون مدنية جامعة بميثاقها الراغب في إزالة التوتر المخيف. لا بد أن نستمع للهزات النظرية المتاحة باعتبارها وسيلة إيقاظ، وطريقة احتجاج على الكراهية، والعنف، والدمار، ووسيلة لاستئناف النقاش، وإثارة الأسئلة من دون وجلٍ أو خوف، بل على جميع أتباع الحضارات والأديان وعلى المجتمعات، كل المجتمعات، أن تتدارك ما لديها من تعاليم لإصلاحها حذراً من تحولها لوقود نار محرقة تأكل معها كل ما تعبره. من «صراع الحضارات» إلى «غرق الحضارات»، كلها نبوءات صادمة تحثّ الأمم على اجتراح طريقة فاعلة لإدارة الخلاف البشري قبل أن تتحول مشاعر الغضب إلى مشاهد مروعة مضمخة بالدماء والأشلاء. الفرصة الآن مواتية بين يدي عقلاء وحكماء البشرية، أن يتم تفعيل العمل المؤسسي والشامل والجدي لاحتواء الأزمات الممكنة، والتصدعات المحتملة، والانفجارات المرتقبة.
مشاركة :