انتشر في مواقع التواصل الاجتماعي تسجيل مرئي لفتاة سودانية تهتف “حَبُّوبتي كنداكة” مستنهضة همم الشعب السوداني في انتفاضته ضد نظام البشير، ولا أود الدخول في الانتفاضة ولا تاريخ الكنداكات، ولكن أود التطرق إلى مفردة “حبوبة” فقد قرأت تعليقا ذكر صاحبه أن لفظة حبوبة “باكستانية الأصل وتعني سيدة كبيرة السن، أو العجوز”، وحين أوضحت بأن هذه الكلمة “عربية” وتعني في السودان ما تعنيه في العراق أي “جدة” كان رده التالي: “اللغة العربية فيها الكثير من الدواخل من باقي البلدان، وربما ما زلنا نسجل في القاموس كل مصطلح جديد يتداوله الناس ويؤخذ في ما بعد على أنه عربي الأصول، لغتنا العربية هي فصحى بحت، ولا يوجد في قاموسها كلمة حبوبة بمعنى الجدة”. فهل حقا هذه الكلمة “باكستانية”؟ وأن لغتنا العربية يخلو معجمها من الكلمة؟ وأن لا وجود للوزن “فَعُّول”؟ من أدوات اللغويين المعاصرين في تفصيح العامية؛ أو ما يُسمى بالصواب اللغوي؛ أنهم يأتون بالاستعمالات الجديدة لبعض الألفاظ ويحاولون التوصل إلى طريقة إدخالها إلى القاموس العصري من خلال مطابقتها وقياسها على الأصول العربية، فإن وافق العربية فالكلمة صحيحة، بحيث تجري على التقاليد العربية. فاللغة غير الكلام، والكلام يكون فيه إبداع الجديد، ثم يتدخل اللغويون لوضعه من خلال آليات الحفاظ على اللغة وتطورها في آن. فلا يمكن إنكار التطور التاريخي للغة وللكلمات واستعمالاتها. وكلمة “حبوبة” يمكن إدخالها إلى القاموس العصري، لأنها على وزن عربي. فالحبوبة مشتقة من الحب، وهي عربية لا غبار عليها. لكن الجذر (فعُّول) وفيعول وفعلون وفاعول من الجذور التي لم تنتشر في البيئة العربية القديمة، بل بقيت في البيئات الحضرية فقط. فاعول كان يدل على الآلة مثل قابوس وفانوس وفعلون أكثر في الأندلس وشمال أفريقيا. وفعُّول بقي صيغة مبالغة، فالحبوبة هي كثيرة الحب. واستعمالها بمعنى الجدة منتشر في العراق والسودان وربما أماكن أخرى بينما في بعض مناطق المغرب تستعمل للبنت الصغيرة التي تكون محبوبة الأسرة. فمن أسماء الله الحسنى (الـقَـيـُّوم)، ومسألة انتقال معنى الكلمة لتؤدي معنى آخر هو من إبداع الناس، من باب التطور الدلالي الذي أنتجته العامة لحاجته وتماشيه مع الذائقة، وقد أطلقوه على العجائز والجدات لظرافتهن وأنس مجالسهن فهن محببات عند أحفادهن. أما عن استعمال (حبوبة) فهو لفظ مستعمل، بل هو تسمية أو لقب لبعض الناس. أما أن تكون كلمة “حبوبة” باكستانية، فلا وجود للغة باكستانية، وواضح أن لغتهم الأوردو، وهذه اللغة أقدم نصوص لها في القرن الرابع عشر الميلادي، بعد أن أصبح منجز اللغة العربية قد فاق الأربعة ملايين كتاب، وهو أكبر تراث عرفه تاريخ اللغات، ومجمل عدد كتب التراث العربي خمسة ملايين. وكانت الأوردية شفاهية وتم تدوينها في القرن التاسع عشر. وهنا أود أن أوضح أن تسلسل اللغة العربية من حيث التدوين ولا أقول الكتابة، هو الرابع، والتدوين أشمل وأوسع، ومرحلة أعلى من الكتابة، أما اللغات التي سبقتها فهي السريانية واليونانية واللاتينية، بينما اللغات الأخر تكاد تخلو من التدوين؛ وإن كان بعضها يملك كتابة واسعة وغزيرة. المزاج العام في وقتنا الراهن، مناهض للعروبة، لأن أنظمة حملت رايتها سياسيا؛ حكمت لعقود بعنف وفساد إداري أدّت إلى إنكار الناس لهويتهم، لكن المعضلة الكبرى أن النخب في غالبيتها لا تميز بين أنظمة جائرة وهوية شكلتنا، وجمعتنا تاريخا ولغة حين تبناها الجميع وأبدعوا فيها وأثروها، وهذا ما نراه في السلبية المفرطة التي ينشر ويكتب ويتحدث بها كثير من الناس بما في ذلك كثير من المحسوبين على النخب، وهؤلاء يفتون بغير علم.
مشاركة :