ما الذي تقصده معظم وكالات الأنباء حين تذيّل خبرها المتعلّق بالفوز الساحق في الانتخابات الرئاسية الأوكرانية للممثل الكوميدي فلاديمير زيلينسكي، بعبارة “رغم افتقاده للخبرة السياسية”؟ لننظر ما الذي فعله “عتاة المحنكين والمتمرسين” من محترفي السياسة، بشعوبهم وبالعالم، أمام أزمات ما تنفك تستفحل إزاء ممارسة كلاسيكية، وأداء باهت، وعدائي النزعة لفن قيادة المجتمعات التي تطالب الآن اعتماد رؤى مستقبلية مبتكرة في حل مشاكلها. هل أن الممارسة السياسية مجرد حرفة ينبغي الحفاظ عليها من “الدخلاء”، وهي التي تعني في عمقها الجوهري الإنساني، ومنذ أيام الإغريق، “مسؤولية الفرد تجاه المجموعة”، بكل ما يمثله هذا التعريف من نبل لا يمتلكه إلا أهل الصفوة من المبدعين المنشغلين بالهم الإنساني؟ الفنان الكوميدي الأوكراني فلاديمير زيلينسكي (41 عاما) ينتصر على خصمه بيترو بوروشينكو، رجل الأعمال الملقب بملك الشوكولاطة (لامتلاكه لعدد كبير من مصانع الحلويات) لا لاقتناع الشعب الأوكراني ببرنامجه السياسي والاقتصادي، بل لثقة عمياء، مصدرها أنه “محبوب” في الوسط الشبابي الأوكراني.. ولا يمكن لمحبوب أن يخذل محبيه.. هكذا، وبكل بساطة، صارت “المحبة” هي البيان الانتخابي الأكثر إقناعا في عالمنا اليوم، بالإضافة إلى الاستفادة من فشل خصمه في حل معضلات أساسية راهنة. الأمر لا يتعلق بنوع من “البلاهة” والبعد عن العقلانية في تقبّل مرشح ما، والتصويت له لمجرد أنه نجم جماهيري، قام يوما بدور كوميدي ظريف يمثل فيه أنه رئيس البلاد، بل بالرهان على تلك العاطفة الجماهيرية، وما يمكن أن تفعله من “ارتجالات” لصالح بسطاء الناس الذين طالما خدعهم السياسيون الكلاسيكيون المدججون بالبرامج السياسية والاقتصادية الرنانة، والتي لا يتحقق منها شيء طالما تبجحت به، ولسنوات طويلة، تلك اللغة الخشبية المعتادة التي سئمها الناس.“لنجرّب ما يمكن أن يقدمه شخص يشبهنا، يضحكنا ويعبّر عن مشاغلنا” هذا ما تفكر فيه الفئات العريضة من الناس، وتقدم عليه بنوع من “المغامرة الممتعة” كما يؤكد علماء النفس في تفسير ظاهرة إقبال الناس على تقبل الشخصيات السياسية القادمة من عالم الفن والرياضة، خصوصا وأن كوميديا زيلينسكي الشعبية في أوكرانيا، هي بمثابة البيان الانتخابي السابق لأوانه.. “يكفي أنه ينتقد، يدخل البهجة إلى نفوسنا، ولا حاجة له في تقديم البديل، لقد سئمنا مدعي تقديم البدائل”.. هذا ما يقوله لسان حال جل منتخبيه من الشعب الأوكراني. سبق لزيلينسكي أن مثّل عام 2015 في سلسلة تلفزيونية كوميدية، تحمل عنوان “خادم الشعب” وتروي شخصية أستاذ تاريخ يصبح رئيسا لأوكرانيا، وهو موضوع كفيل بإثارة أسئلة تمس جوهر الهوية الوطنية بدل الغوص في التفاصيل الراهنة، مما يكسبه شعبية تغنيه عن تقديم البدائل التي سوف يتكفل بها التكنوقراط والخبراء المتخصصون. الأمر لا يتوقف عند زيلينسكي في أوكرانيا، فقد سبق للمثل الكوميدي ارنستو مورالس، أن تقلد رئاسة غواتيمالا عام 2016. أما رئيس تشيكيا وسلوفينيا سابقا، فاتسلاف هافيل، فكان كاتبا مسرحيا ذائع الصيت. ويبقى الممثل الأميركي رونالد ريغن، الذي شغل منصب الرئيس الأربعين للولايات المتحدة الأميركية (من 1980 إلى 1989)، أكثر الأمثلة سطوعا في تألق نجوميته السياسية التي فاقت نجوميته السينمائية، إذ نجح في تخفيض الضرائب مما ساهم في إنعاش الاقتصاد، وأدى إلى زيادة الاستثمار والنمو. وفي العالم العربي، ينفرد الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة بانتصاره للفن المسرحي، وهو الذي خاض التجربة في بداية شبابه، وقال يوما في خطاب موجه للمسرحيين “لو لم أكن رجل دولة لكنت رجل مسرح”. قوبل خطابه آنذاك بانتقاد خصومه السياسيين، وجيروه لصالح استفادته من فنون الأداء التمثيلي في خدمة سياسته ذات النزعة النرجسية، لكن لا أحد ينكر فضله في انتعاش الحركة المسرحية في البلاد بسبب شغفه الخاص بهذا الفن الذي صار يتقنه جميع السياسيين كشرط لولوج “فن الممكن”. ولكن، هل يتعين للمسرحي أن يدخل دهاليز السياسة؟ هذا هو السؤال. وفي هذا الصدد، يتساءل الأكاديمي المسرحي التونسي أنور الشعافي في مقال له “سياسيونا لا يشاهدون المسرح إلا الرخيص منه فهل سيغريهم نجاح زيلينسكي فنراهم يتدافعون لافتكاك دور في مسرحية ما؟”.
مشاركة :