«روايات»..بستان سرد جديد في الإمارات

  • 4/23/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

** الشارقة: علاء الدين محمود«روايات» اسم لمع كبرق ساطع في سماء الثقافة الإماراتية والعربية، وهي إحدى شركات «مجموعة كلمات» للنشر في الإمارات، والتي تعد من مؤسسات النشر الرائدة في المنطقة، والتي تلتزم بالتطوير من خلال الابتكار، ضمن بيئة إبداعية محفِّزة تعمل على جذب أفضل المواهب العاملة في هذا القطاع، وقد تفردت روايات ضمن منظومة «كلمات» بالتخصص في مجال السرد، ونشر الأعمال الروائية العربية والمترجمة. .. ترى ماذا يحدث للقارئ مع «الروايات»؟ لاشك في أنها تلك العوالم التي توفر كل شيء له، المعرفة والمتعة والمعنى، والأهم من ذلك الغرابة، فهي تنقل القارئ إلى فضاء غير محدود من الخيال، وربما يختفي كذلك عنصرا الزمان والمكان، الأمر الذي يعزز عملية تحفيز التفكير والشغف بالقراءة، لذلك فإن الاهتمام بالرواية والسرد، ليس ترفاً محضاً، بل هو من صميم الاهتمام بالإنسان نفسه، وبعملية القراءة التي هي الركن الأول والأساسي في تنمية الإنسان وتطوره، ومن هذه الزاوية تحديداً؛ فإن مجموعة «روايات»، تتخير وتمارس الانتقاء في نشر الأعمال السردية، فتقوم بتقديم تلك التي ترسخ في ذاكرة القارئ وتنبش داخله فتحفزه على التفكير والاندفاع نحو عوالم القراءة بلا انقطاع، وهذا ما سنعرفه من خلال التجوال في ذلك البستان يانع الثمرات، حيث نتعرف إلى أعمال تنتمي إلى حقب تاريخية مختلفة وإلى مدارس متنوعة من الفكر والسرد الروائي، ومناهج في تقنيات الحكاية لمؤلفين خلدتهم كتاباتهم السردية، هو تطواف في سحر الكلمات والعبارات الشاعرية واللغة في سياق العملية السردية العظيمة، وهو تجوال في فلسفات وأقوال ومفاهيم تختبئ خلف لغة السرد، وتتوارى في عمق النص فلا يلتقطها إلا قارئ حصيف، وهو احتفاء بالإنسانية بمختلف انتماءاتها. حديث عن الحب «عمّ نتحدث حيث نتحدث عن الحب» عمل سردي مكون من عدد من القصص القصيرة، هو للكاتب والشاعر الأمريكي ريمون كارفر، وهو اسم كبير في عوالم القصة والرواية، حيث يعتبر من أفضل كتاب القصة القصيرة على مر العصور، وإن لم يجد التقدير الكافي، وربما هذه الطبعة من قبل «روايات» لعمله هذا هي نوع من التقدير لكاتب من طراز رفيع، وكشأن المتمردين في عالم الأدب؛ فقد رفض صاحبنا السائد في ستينات وسبعينات القرن الماضي في أمريكا حيث الكتابة الإبداعية التجريبية، وتبنى بدلاً عن ذلك أسلوباً واقعياً قصد منه استعادة الزمن الجميل وابتكاراً مختلفاً في السرد.«عمّ نتحدث عندما نتحدث عن الحب»، تنتمي إلى كتابة اليومي المعيش، هو رسم للوحات مشهدية مستمدة من الواقع بلغة عاطفية مؤثرة، وتنبع أهمية المجموعة من كونها توثيقاً إبداعياً لتفاصيل الحياة اليومية المهملة جداً والمستخف بها، لتكسوها دلالة ومعنى، والمجموعة تأملات عميقة في الحب والخسران والتعاطف، فالقصص تأخذ مشاهدها من مناطق مألوفة للجميع لكنها معزولة في الوقت نفسه، بين رجال ونساء عاديين نلتقيهم يومياً، يمرحون ويصطادون ويلعبون، في انتظار أن يمضي الوقت فحسب، وقد وضعت هذه المجموعة المميزة كاتبها في مصاف أكثر المؤثرين في المشهد الأدبي في حقبة الثمانينات الأمريكية، وقد ألهمت كتاب السينما فتحولت القصة الرئيسية «عمّ نتحدث عندما نتحدث عن الحب» إلى فيلم حاز أربع جوائز أوسكار عام 2015م.ولعل هذا العمل يقدم لنا إضاءة على أن الاختيار من قبل «روايات»، للأعمال السردية ليس مجانياًَ بل يستوعب الكثير من الأبعاد المعرفية. «حكاية الجارية» تنسب رواية «حكاية الجارية»، للكاتبة الكندية الأشهر مارجريت آتوود، إلى أدب الديستوبيا، وهي عوالم مجتمع خيالي، مخيف غير فاضل تسوده الفوضى، ليس للخير فيه أي مكان؛ حيث الشر والفساد المطلق، ويتسم بالخراب، والقمع، وغيرها من القيم السيئة، وهي التي اجتمعت في هذه الرواية المخيفة والتي نالت شهرة كبيرة؛ عندما نشرت في عام 1985، وتتناول قصة الخادمة «أوفريد» بعد سيطرة جماعة دينية مسيحية على السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية. وتنبع أهمية الرواية وراهنيتها من كونها تعالج قضايا مُلحة؛ وهي تغير المجتمعات نتاج حدث ما، إضافة إلى قضية الهيمنة الذكورية تجاه المرأة في ظل المجتمعات الأبوية، والوسائل المختلفة التي تستعيد فيها الشخصيات فردانيتها واستقلاليتها. إذاً فالرواية بشكل ما؛ هي تحقيق للرؤى والأفكار التي تحملها المؤلفة كواحدة من أبرز الناشطات في المجال النسوي والاجتماعي، فهي انتصار للفلسفة النسوية، وارتفع بها هذا العمل عالياً في سماء الأدب؛ ليجعل منها واحدةً من أهم الروائيات في العصر الحديث، إلى جانب كونها كاتبة وشاعرة وناقدة أدبية، وتنقسم الرواية إلى قسمين: «الليل» و«أحداث أخرى مختلفة». وتحكي قصتين، قصة «أوفريد» و«حكاية الخادمات»، وفي الكثير من أجزاء السرد تنتقل «أوفريد» بين الماضي والحاضر خلال حكيها للأحداث التي أدت إلى تدني وضع حقوق المرأة، وتفاصيل حياتها اليومية في الحاضر، ويحمل العمل رؤية مخيفة للمجتمع وقد تحوّل جذريّاً؛ بسبب ثورة سياسيّة دينيّة متشدّدة، و«أوفرِد» هي جارية في فضاء متخيل هي «جمهورية جلعاد»، تخدم في منزل «الرئيس» الغامض وزوجته حادّة الطّباع. تخرج مرة واحدة يوميّاً إلى الأسواق، والنساء في جلعاد تحرّم عليهن القراءة. ويجب عليها أن تصلي؛ من أجل أن يجعلها الرّئيس حاملًا، ففي زمنها انخفضت معدّلات الولادة حتى صار وجود الأطفال في البيوت أمراً نادراً، وهكذا باتت قيمة المرأة تكمن في قُدرتها على الحمل، أمّا فشلها فيعني إرسالها إلى المستعمرات؛ لتنظيف النفايات الإشعاعيّة. تتذكر أوفرد الأوقات التي عاشتها مع زوجها وابنتها، قبل أن تسلبها الثورة حتى اسمها الحقيقي.والرواية تعد من الأدب الذي يحمل أفكاراً رؤيوية أو تنبؤية؛ حيث تحذر من احتمال وقوع أحداثها في المستقبل، وقد صنفها النقاد بأنها الكلاسيكية الدستوبية الأكثر تأثيراً في القرن الواحد والعشرين، وفي مرتبة رواية جورج أورويل «1984» وآلدوس هكسلي «عالم جديد شجاع»؛ إذ لم تترك بصمتها وحسب في أدب الدستوبيا؛ بل وشكّلت تحذيراً من أحداث يمكن وقوعها في المُستقبل. «مزرعة الحيوان» سمعة الكاتب المهول جورج أورويل، استمدها بشكل كبير من «مزرعة الحيوان»، تلك الرواية العظيمة التي ذاع صيتها في كل العالم، ووجدت رواجاً كبيراً، وصُنفت ضمن أعظم الأعمال الأدبية في القرن العشرين فتُرجمت لأكثر من 70 لغة، وقد جعلها أسلوبها السردي البسيط والرشيق مناسبة لمختلف القُراء ولكافة الفئات العمرية، وتكتسب الرواية أهميتها الراهنة في كون أن هنالك عودة كبيرة لقراءة مجمل أعمال جورج أورويل وإحيائه وذلك نظراً للاضطراب والاختلال السياسي الذي يشهده العالم الآن، خاصة في المعسكر الرأسمالي نفسه الذي يقف وحيداً مسيطراً على العالم.وعلى الرغم من الأحاديث عن انطلاق أورويل من موقف أيديولوجي نقيض للفكر الاشتراكي؛ إلا أن الرجل استطاع أن يؤسس ضمن آخرين لاتجاهات جديدة مناقضة للشموليات، فهذه الرواية التي تستند إلى قوة الرمز والإشارات، هي في الأساس هجائية شديدة اللهجة ضد الحكم الشمولي في الاتحاد السوفييتي السابق إبان فترة حكم ستالين، فهي عبارة عن قصة رمزية تجري في مزرعة للحيوانات، وتحكي قصة ما جرى في روسيا أعقاب الثورة، على لسان تلك الحيوانات، وكيف أن المفاهيم قد تبدلت وابتذلت، فحلت مكان الحرية والدعوة لها، أكبر ديكتاتورية عرفها ذلك الوقت، الأمر الذي خلق اضطراباً شديداً في الحياة السوفييتية، وفي المفاهيم التي اصطدمت بالواقع وبطرق تمثل البشر لها، وقد تعدت الرواية لفرط قوتها، الاتحاد السوفييتي وباتت تمثل القيم المضادة والناقدة لكل أنواع الشموليات والاستبداد في العالم. «عودة الروح» تمارس الكاتبة الأمريكية التي تنحدر من غانا «يا جسى»، فعل العودة إلى الجذور؛ عبر روايتها «عودة الروح»؛ حيث تأخذ القرّاء في دهليز تاريخي خيالي إلى دولة غانا التي تقع في عمق إفريقيا، في القرن الثامن عشر؛ حيث تجارة الرقيق من الغرب الإفريقي، وتأثيرها على أجيال وحقب غانا وإفريقيا، فهي تتبع هذه الرحلة بنفاذ بصيرة الروائي في نظرته للأشياء، ورصد تأثيراتها الاجتماعية والنفسية والثقافية، وقد استلهمت الكاتبة هذا العمل خلال زيارتها إلى الوطن الأم غانا عام 2009، وبينما كانت هناك، قامت بجولة في قلعة «كايب كوست»، ذلك المكان الذي يظهر بشكل بارز في الرواية.وتتناول الرواية قصة لأختين في غانا خلال القرن الثامن عشر، ولدتا في قريتين مختلفتين من دون أن تعرفا بعضهما، إحداهما تتزوج تاجر عبيد أبيض، وتعيش مرتاحة في غرف قلعة «كيب كوست»، الفارهة، بينما الأخرى يتم أسرها خلال غزوة على قريتها؛ لتسجن في قبو القصر نفسه مع آخرين؛ ليباعوا عبيداً إلى الإنجليز، ويتبع السرد طريقين متوازيين للأختين وسلالتيهما من الأحفاد عبر ثمانية أجيال، من ساحل الذهب في غانا، إلى عصر الجاز في حي هارلم الأمريكي. «المريض الإنجليزي» «هذه رواية نادرة تحك جلدك، وتجبرك على العودة إليها مراراً وتكراراً، وفي كل مرة تسبب للقارئ مفاجأة أو فرحة جديدة». هكذا تحدثت الروائية البريطانية كاملة شمسي، عن رواية «المريض الإنجليزي»، للكاتب السيرلانكي مايكل أونداتجي؛ عندما اختارت طرح هذه الرواية للتصويت على جائزة «البوكر مان» الذهبية البريطانية عام 2018؛ بمناسبة مرور نصف قرن على المسابقة البريطانية. تواكب أحداث القصة الحرب العالمية الثانية، ويواجه بطلها ماضيه الغامض، وهو بجسد محترق بالكامل، في منزل مهجور يقع على تلة إيطالية مقصوفة أوآخر الحرب ترافقه فيه ممرضته الكندية، وينشأ حوار عظيم بين البطل والممرضة التي اقتربت كثيراً من عوالمه، وساعدته في رحلة تذكر فيها مجمل تفاصيل حياته بما في ذلك اسمه؛ حيث فقد تلك الذاكرة المثقلة تماماً، لنعيش من خلال السرد مع تلك التفاصيل المدهشة لقصة هذا المريض الذي يظن أنه إنجليزي، فقد وجد في مصر أثناء الحرب العالمية الثانية، سقط مع طائرته وتشوه؛ بسبب الحروق إلى درجة لم يتمكن أي شخص من معرفة هويته، والسرد يقودنا بأسلوبية رائعة إلى الكشف عن عدد من الحقائق؛ أهمها: أن الرجل لم يكن إنجليزياً، فقد جاء من المجر، وهو يعمل في رسم الخرائط، وتأتي روعة السرد؛ من خلال تلك الخيوط المشتبكة لأبطال القصة الأربعة في ذلك المنزل المهجور؛ وهم: هانا الممرضة التي أنهك روحها الموت ترعى بطريقة مدهشة مريضها كارافاجيو، وهو لص يحاول أن يعيد التفكير في هويته الآن وقد باتت يداه اللتان نزل عليهما العقاب دون فائدة له، وهناك الهندي كيب، الباحث دوماً عن الألغام المخفية، ينشغل كل واحد منهم بطريقة مختلفة بلغز الرجل الذي يعرفونه فقط باسم المريض الإنجليزي، فهو ضحية لا اسم لها، تستلقي في ضماداتها طوال الوقت في غرفة من المنزل، وتتناول الرواية هذه الشخصيات في أبعادها المتباينة، فهم، من عرقيات مختلفة، مهجرون مبعدون عن أوطانهم؛ بسبب ويلات الحرب العالمية الثانية، التي أفقدتهم هوياتهم.ومع المريض الإنجليزي نعيش تجارب مختلفة؛ عبر أحاديث بطل الرواية وذكرياته في بحر الرّمال العظيم وصحاري مصر وليبيا، في كهف السبّاحين والجلف الكبير، عن البدو وواحاتهم وسحرهم، وحُبّهم المحرّم، وغضْبَتهم الشّرسة - تلك الذّكريات تُشعل القصّة، وتكشف عن غوامضَ تنتقل في موجات صادمة إلى الهاربين من الحرب والموت حوله في المنزل، فتتغيّر حيواتهم إلى الأبد.وتنبع أهمية الرواية من ذلك الاقتحام الفريد لكاتب سيرلانكي لحقول الكتابة الإنجليزية بكل خصوصيتها وتأسيسها المتين، المستمد من إرث في السرد شيده الكثير من المؤلفين الإنجليز منذ العظيم شكسبير. «دكتور كلاس» قبل ما يزيد على مئة عام في 1905م، صدرت رواية «دكتور كلاس»، للكاتب السويدي يلمار سودر بيري، فأثارت ضجة القرّاء، وهجوماً عنيفاً واستنكاراً واسعاً؛ بسبب تحليلاتها الجريئة والتي اعتبرت منفتحة جداً ومخزية لمواضيع حساسة كثيرة، وقد قابل المؤلف ردة الفعل تلك بحيرة ودهشة؛ إذ إنه لم يكتب عملاً هجومياً، فلم تكن سطوره عنيفة؛ بل إنه قام بتأليف رواية أنيقة ينظر إليها الآن على أنها واحدة من كلاسيكيات الأدب؛ رواية تتنفس بعمق، وتتأمل، وترسم الخريطة النفسية لشخصياتها بدقة ومهارة.الرواية كتبت بأسلوب التحليل النفسي، الذي برع فيه بيري كثيراً، ووضح ذلك في بعض أعماله؛ مثل: «اعترفات»، و«مارتن بريك وفترة صباه»، و«اللعبة الصارمة»، وبطل الرواية هو طبيب نفسي شاب يعيش وحيداً، ويعالج مرضاه في عيادته المنزلية، لا علاقة له بالنساء؛ بل يبتعد عنهن، رغم أن عيادته تعج بهن، إلى أن جاءته إحدى الفتيات الجميلات طالبة منه أن يساعدها في أن يقنع صديقه وزوجها في أن يعفيها من أي التزام وواجب زوجي، هنا يبدأ الدكتور كلاس في التفكير بين الفكرة ونقيضها، وفي يومياته التي يدونها؛ فإن الطبيب يغوص عميقاً في نفوس مرضاه، ويزيح الأقنعة الزائفة عن وجوههم؛ من أجل الوصول إلى حقيقة النفس الإنسانية. «بدم بارد» هنالك من الروايات ما تشبه اللعنة، فهي تغل يد صاحبها عن الكتابة مجدداً، فيعيش على نجاحها، على نحو ما فعلت رواية «بدم بارد» للكاتب الأمريكي تومان كابوتي، الصادرة عام 1966، والتي بفضلها نال كابوتي لقب أفضل كاتب أمريكي في تلك الحقبة، لكنه لم يستطع أن يكتب بعدها مجدداً، وبالأحرى لم يعد قادراً بعدها على إنهاء أي عمل سردي، وبقيت أعماله اللاحقة لها مجرد محاولات ومسودات، فكان لذلك تأثيره الكبير في حياته، حتى إنها دمرته تماماً حيث عاش حياته مدمناً على الكحول، فتوفي عام 1984م جراء مضاعفات الإدمان، ولكنه اشتهر بصورة كبيرة على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية، ولقب بالعبقري، حتى أنه قورن بإرنست هيمنجواي، وظل حاضراً بكثافة في المشهد الثقافي والروائي العالمي، وصدرت عقب وفاته المئات من الطبعات الجديدة من أعماله الأدبية، واهتم كتاب السيرة الذاتية بحياته وإبداعاته، واستلهم صناع السينما بعضاً من رواياته منها الرواية التي نحن بصددها، ورواية «إفطار في تيفاني» وغيرهما، وقد اعتبر كابوتي هو الكاتب المؤسس الحقيقي لجنس أدبي جديد يعرف ب«الرواية غير الخيالية».هذه الرواية هي بنت الصدفة، وهي في الأصل تحقيق صحفي كتب بلغة وأسلوب روائيين إبداعيين، فقد قرأ كابوتي عام 1959 خبراً عن جريمة قتل لمجموعة من المزارعين في كانساس، حيث قُتل أربعة أشخاص من عائلة واحدة بوحشيّة غير مسبوقة، وأطلق عليهم الرصاص على بُعد سنتيمترات قليلة من وجوههم، ولم يجد المحققون أيّ دافع واضح للمذبحة، ولا أدلّة، فقد كانت الجريمة غامضة تماماً، وحاول كابوتي أن يعالج تلك الجريمة البشعة وأحداثها في البدء عن طريق كتابة المقالات لمصلحة صحيفة ال«نيويوركر»، ولكن بعد أن ذهب إلى حيث بلدة «هولكومب» التي شهدت وقوع الجريمة، فضل أن يقوم بكتابة رواية عنها، ذلك لأن الأحداث الغامضة والغريبة المتعلقة بالحادثة قد استهوته، وحفزته على الكتابة، وأيقظت فيه روح الروائي، وقضى ست سنوات يحقق في هذه الجريمة المروعة، وقد لفت انتباهه في البدء أن الجريمة لم تكن بهدف السرقة، فالمنزل الذي وقعت فيه حادثة القتل لم يسرق منه شيء، فعمد كابوتي إلى تحليل ومعرفة الدوافع لدى القاتلين «ديك هيكوك»، و«بيري سميث»، مستصحباً ظروف التنشئة الاجتماعية والأبعاد النفسية لهما، في محاولة لتقصي أسباب ارتكاب الجريمة. «ببغاء فلوبير» ربما يكون من المناسب جداً أن ننتقل من رحاب الواقعية في تطوافنا هذا إلى مرحلة مازال تعريفها ملتبساً، وهي ما عرفت بكتابات ما بعد الحداثة، حيث يعتبر الكاتب جوليان بارنز، مؤلف «ببغاء فلوبير»، من أهم الكتاب الإنجليز المعاصرين، ويوصف بأنه أحد أعلام حركة ما بعد الحداثة، وربما يجد هذا الوصف تجلياته في هذا العمل الذي لقي تجاوباً كبيراً من القراء، فهو يفتح أشرعته في بحر من الأسلوب المبتكر والسخرية والاقتباسات الحكيمة، ويجمع بين عدد من الأساليب الإبداعية مما يدخل الحيرة في نفسك، ويسرب إليك أسئلة: هل هو سرد قصصي، أم تقرير لوقائع معينة بأسلوب شاعري، أم هي قصائد لم يفصح صاحبها عن أي البحور تنتمي إليه، وأي المدارس الشعرية قد غزلت خيوطها وتفاصيلها الفكرية والسردية؟ وهل هي في الأصل رواية أم سيرة ذاتية؟ حيث إن الكتاب يتبع أساليب سردية، ويوظف تقنيات في بناء الحكاية عصية على التعريف، ربما هي استجابة غير مصرح بها لصرخة الأديب الروماني الشهير إميل سيوران، بأن حطموا الأقبية الأدبية والأجناس الإبداعية فالمهم هو الكتابة والكلمات، لقد رسّخت هذه الرواية اسم جوليان بارنز في السّاحة الأدبية كأحد أقوى المشتغلين على الأشكال السّردية ما بعد الحداثيّة. فهو حين يستنطق فلوبير من خلال رسائله، يُذيع لنا صوت عشيقته التي لم يتزوّجها، ويبحث عن الأدلّة كباحث في حين يروي الخيالَ ويغذّي به الاحتمالات كسارد عبقريّ بحق، ومجرّب أصيل في الكتابة.وتطل الرواية على عوالم الفرنسي الأديب غوستاف فلوبير، الروائي الكبير وصاحب الرواية الأشهر «مدام بوفاري»، فيما يشبه كتابة السيرة الذاتية، لكن المقصود هو الانتصار لفلوبير وإنتاجه الكتابي وعوالمه الواقعية، ويظهر ذلك من خلال بطل الرواية «بريثويت»، الذي يختار أن يدافع عن فلوبير كصديق وأن يثأر له من النقاد الذين يضاهون حياة الكاتب بما يدونه، والرواية تتحدث عن الببغاء الأمازوني الذي وضعه فلوبير على طاولة كتابته لفترة وجيزة. ظهرَ هذا الببّغاء في كتابه «ثلاث حكايات»، والآن، بعد كل تلك السّنوات، يأتي طبيب متقاعد وأرمل، جيفري بريثويث، الهاوي لعوالم فلوبير، ليسأل: أين هو ذاك الببّغاء الأمازونيّ الأخضر، ذهبيّ العنق، ورديّ طرفي الجناحين؟ يعثر جيفري، في سفره لرؤية الببّغاوات المحنّطة في المتاحف المخصّصة لآثار فلوبير، على ببّغاوين يحيّرانه، وكثير من الأشياء والمعلومات التي تُدهش القارئ. «السكك الحديدية السرية» تعد رواية «السكك الحديدية السرية» للكاتب الأمريكي كولسون وايتهيد، من أفضل إصدارات نيويورك تايمز مبيعاً، وفازت بجائزة «بوليتزر» للعام 2017 عن فئة الرواية الخيالية، وجائزة الكتاب الوطني للرواية الخيالية للعام 2016. وتجسّد هذه الرواية ملحمة عظيمة سطرتها شابة من طبقة العبيد، وهي تحاول بكل ما أوتيت من قوة نيل حريتها قبل اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية. وربما ما يميز هذه الرواية، أنها لم تضع أصباغاً على وجه المرأة المناضلة؛ من أجل حريتها، أي لم تضع حولها صورة ذهنية لامرأة تتمتع بالأخلاق والطيبة كعبدة مغلوبة على أمرها؛ بل على العكس من ذلك صنعت لنا صورة فتاة سيئة شريرة، فهذه الصورة تبدو طبيعية جداً وغير مصطنعة، فحياة العبودية والاضطهاد هي صعبة في كل تفاصيلها، ولا يمكن أن تنتج إنساناً يتمتع بالطيبة وما شابه من صفات يضيفها الكتاب، في العادة، على أبطاله وشخوصه الرئيسية في مثل هذه الحالات، وعلى القارئ أن يتعامل مع بطل بملامح وأخلاق مختلفة، وهذا ما جسدته شخصية كورا التي وجدت في حياتها ما هو أشدّ صعوبة؛ فهي لم تكن منبوذة وحسب من قبل البِيض؛ بل وأيضاً من قِبَل إخوانها الإفريقيّين. واستطاع المؤلف بالفعل في هذا العمل المختلف في كل شيء، أن يرسم قصة وملحمة أمريكا من الاستيعاب الوحشي للأفارقة إلى الوعود التي لم يتم الوفاء بها في يومنا هذا، فهو يتناول البؤس اليومي في حياة فقيرة من كل شيء، ويرصد الطبائع السيئة للإنسان في الظروف غير الطبيعية، فالمالك للعبيد هو كائن بالغ السوء يعامل عبيده بالقسوة الشديدة، ويستنفذ طاقاتهم في العمل الشاق؛ بحيث يحل عليهم البؤس والادقاع الروحي، فيتحول هؤلاء العبيد إلى مسوخ بشرية نسبة لتلك الحياة التي يعيشونها، فالبشر يفكرون عادة بطريقة معينة وفق الحياة التي عاشوها، وهذا بالضبط ما فعله المؤلف في هذا الرواية. وفي قطار السكة الحديدية نعيش مع الهاربين من العبيد في أجواء المخاطر المرعبة في جورجيا، فإلى جانب بطلة الرواية العبدة كورا، يوجد عدد من العبيد الهاربين من مزارع القطن؛ حيث حياة العبودية، منهم سيزر الذي أخبرها بأمر القطارات السرية، وهو العبد الذي اصطادوه في فرجينيا، فيُعجب بكورا، وفي رحلة الهروب تلك يتعقبهم صائد العبيد «ريدجواي»، المتخصص في هذه المهمة، وتذهب كورا في هذه الرحلة المروعة من ولاية إلى أخرى لتصل إلى الحرية الحقيقية. الرواية وجدت إقبالاً كبيراً وقد اتسمت بالشجاعة والجرأة الشديدة، وتفردت بوجهة نظر جديدة ومختلفة حول العبودية، وعن وصمة العار هذه في التاريخ الأمريكي. «الخريف» تحمل رواية «الخريف»، للكاتبة الاسكتلندية آلي سميث تفاصيل سرد مختلف وممتع وناصع بالحقيقة، وضعت كاتبتها في طليعة الروائيين الذين يُلاحقون تحوّلات الناس الاجتماعية والسياسيّة، حيث يرصد العمل تلك الحالة التي ألمت بالجميع عام 2016 عندما خرجت بريطانيا للتو من الاتّحاد الأوروبيّ، وتأثير الانفصال على حياة البريطانيين؛ حيث عاش الجميع في صدمة، والأمّة كلها، حسب المؤلفة، عانت ألماً غريباً، وتحكي الرواية قصة «دانيال كلاك»، الذي يبلغ من العمر 101 عام، وهو مغنٍّ سابق، يرقد طريحَ الفراش في المستشفى، ويحلم بشكل مستمرّ، وتزوره بصورة منتظمة فتاة في الثانية والثلاثين من عمرها، «إليزابيث ديماند»، التي كانت جارته في صِغَرِها، وأنشأت معه صداقة متينة، وتأثّرت بحواراتهما عن الفن والرّسم. وتنتقل الرواية بين كلارك وأحلامه الطويلة بينما يقترب من حافة الموت، ولحظات استجماع إليزابيث ذكرياتها عن جذور صداقتها به، هي لحظات من المتعة والحميمة في التفاصيل السردية لهذا العمل البديع.واسم الخريف هنا له أهميته كعتبة نصية تدخل بشكل حاسم في قراءة الرواية، فهو يعبر عن النهايات، ومغارب العمر، وتلك السلاسة في الأحاديث التي تخرج من فم الشخص المواجه للموت، هي الأحاديث الأخيرة، تأتي دائماً بصفاء ذهن شديد، وعامرة بالحقيقة والحب للناس، فالكاتبة تتناول في هذا العمل علاقات متنافرة تشكل أساس الحياة، كعلاقة الحيّ بالميّت، والحاضر بالماضي، والفن بالحياة. وقد لقبت المؤلفة بأبرز روائيّة بريطانيّة معاصرة، لبراعتها الشديدة في رصد اليومي والمعاش وتحويله إلى عمل إبداعي.

مشاركة :