الشارقة: علاء الدين محمود يجب علينا أن ندخل بهدوء لأن «صاحب المكتبة» لا يسمح بالضوضاء، لقد ترك كل أشكال الضوضاء الخارجية، واكتفى بتلك «الجلبة» المعرفية التي تُحدثها الكتب، هي جلبة لأن الهدوء الظاهري في المكتبة، يخفي ذلك الصخب الذي يحدث في العقل بفعل القراءة على مستويات التلقي، والتفاعل، والنقاش مع النص، وهذه الأشياء جميعاً، عالجها الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانجويل، في مؤلفاته العديدة عن القراءة والمكتبة مثل «تاريخ القراءة» 1996، و«المكتبة في الليل» 2007، و«الأوديسا والإلياذة هوميروس: سيرة» 2008، و«فن القراءة» و«مع بورخيس» و«يوميات القراءة»، وغيرها من المؤلفات التي تدور عوالمها حول القراءة والمكتبة. حمل مانجويل العديد من الألقاب، ومن المفارقات الغريبة أن معظم هذه الألقاب تدور في عوالمه التي عشقها، عوالم الكتب والقراءة، فلقب بالشغوف، وكذلك برجل المكتبة، فالتأليف عن الكتب كان ذلك إسهامه الأعظم والفريد في الثقافة العالمية، وهي مهنة دفعت به إلى الغيرة على القراءة والمكتبة، فهو يرفض التسليعية في ما يتعلق بالكتاب، أي رفض أن تتحول الكتب إلى مجرد سلعة للبيع والتبضع، لذلك ظل دائماً يطالب بنشر الكتب حتى التي لا تُقرأ، ويحاول أن يضع الكتاب بعيداً عن دورة رأس المال المهلكة، وطالب بأن تكون الكتب متاحة للجميع. مانجويل ظاهرة مختلفة، هو الوحيد من دون الكتاب والمفكرين الذي أنفق سنوات عمره يكتب عن كيف نقرأ، وعن متعة الكتابة، فوجوده ارتبط دائماً بالقراءة والمكتبة، هو يتنفس تلك الكتب، ويحرّضنا على خوض التجربة نفسها، فمن خلال معاشرته اليومية للكتب توصل إلى أن الكتاب هو التجربة الأكثر حضوراً ونضوجاً، وهي التي تحررنا من الأوهام، على عكس ما يشاع، لكنه لا يعّلمنا، ولا تتملكه تلك الرغبة «الأستاذية» في أن نقرأ، هو فقط يصف ما تفعله القراءة بالعقول، وعلى الناس أن يختاروا، أن يكتشفوا سر تبتله الخاص، لأنهم إذا فعلوا لتوصلوا إلى أن القراءة هي الفاعل الحقيقي في الحياة. الحياة التي اختارها مانجويل صنعت منه شخصية أسطورية، شخصية غريبة، وما يعزز ذلك الشعور بالغرائبية تلك العزلة التي اختارها لنفسه، ربما هو لا يجدها كذلك، ويرفض أن يسميها عزلة، خاصة أنه في حضرة الكتب، ولكن الآخرين الذين لم يعتادوا على ذلك الفعل يجدون فيه رجلاً قد اعتزل الناس، واختار حياة الكتب، وظنوا بذلك أنه مفارق للواقع، بينما كان هو يرى أن الكتاب هو الذي يعيننا على الواقع، وفهمه، ليظل هو أسير قوة كبيرة غامضة، هي عالم الكتاب الذي يقسمه إلى فترتين زمنيتين، فهنالك القراءة في الليل ذات العوالم والطقوس الخاصة، تأخذ من أنفاس الليل وصمته، وقراءة أول النهار تعلن عنها نسمات الصبح. ويؤكد مانجويل أنه يستمتع جداً بالقراءة عندما يحل المساء، فذلك الصمت الكثيف يجعله منصرفاً إلى الكتاب، وعوالمه، وهذا ما دفعه إلى تأليف كتاب «المكتبة في الليل»، فمتعته الكبيرة هي القراءة ليلاً، وهو يرسم لنا صورة مشهدية حية لهذا العالم الليلي عندما يقول: «حيث الصمت الكثيف»، ثم يتحدث عن تلك التفاصيل العجيبة لعالم مختلف يمتزج فيه الخيال بالواقع فيشكلان عوالم المكتبة الليلية، حيث يشرع الخيال، وتشتعل الذاكرة في هدأة الليل، وتمر في خياله مكتبات تاريخية تعبر أفقه مثل مكتبة الإسكندرية. إنه يحفر في تاريخ تلك المكتبات. المكتبة التي شيدها مانجويل في منزله النائي أراد أن يضفي عليها السحر، يأخذ هذه الصفات من عوالم الكتب التي قرأها، ويسقطها على مكتبته الحافلة بالغواية، هي عند الليل مختلفة عنها في النهار، وهذا الاختلاف الزماني يقود إلى اختلاف مزاجي في لحظة القراءة، وفي ذلك يقول مانجويل: «في النهار، يشدّني التركيز والانضباط، وفي الليل أستطيع القراءة برخاوة تصل حدّ اللامبالاة»، إنه يستعيد أقوال علماء وفلاسفة اطلع عليها في الكتب في ما يختص بذلك الاختلاف الزماني. يقود الجنون مانغويل إلى أن يصبح واحداً من شخوص تلك الكتب، فتتلبسه شخصية «دون كيخوتي دي لا مانتشا»، التي لا تنفك عنه، أو «ماكيافيللي»، وغيرهما من الشخصيات التي عاش معها، وقدمها لنا من جديد. قصة مانجويل مع الكتاب تؤسس لآلاف القصص، ذلك الحب الذي بلغ مرحلة الشغف يستحق أن يصبح حكاية تروى، هو شغف لا يقف عند مانجويل، بل يتسرب إلى الملايين من القراء، فبقدر ما كانت عوالم مانجويل سحرية، وآسرة، حاول الكثيرون أن يكتشفوا سر ذلك الشغف، لكن السحر انقلب عليهم فصاروا هم أيضاً أسرى الشغف بالكتب. خيال محلق المكتبة عند مانجويل مكان يحرر الخيال، فعندما يحل القارئ ضيفاً عليها، وفي اللحظة التي يمسك فيها بالكتاب ليطالعه، يسافر إلى الأماكن التي يرشده إليها الكتاب، ويتنقل عبر بلدان لم يزرها، يتعرف إلى تاريخها، وجغرافيتها، يستمع إلى رجال ونساء من عصور سحيقة، وربما يحل به ما حل بدون كيخوتي، الذي أكثر من قراءة كتب عصر الفرسان حتى تخيل أنه منهم، لذلك يقول مانجويل «المكتبة ليست مكاناً يرتاده من يبحث عن نفسه، بل لمن يرغب في إضاعتها، والابتعاد عنها، ولو ساعات قليلة». لا يضع مانجويل شرطاً للقراءة، فلك أنت تقرأ ما شئت، لك مطلق الحرية في اختيار الكتاب، إذ إنه ينطلق من أن القراءة فعل حر، بالتالي هو يضع لافتة على مكتبته كتب عليها «اقرأ ما شئت»، فهو يرفض القراءة وفق اختيار مسبق. وربما لن يمضي الحديث هكذا عن مانجويل من دون الإشارة إلى معلمه الكاتب الكبير بورخيس، ذلك الذي رافقه مراهقاً، وأرشده إلى عالم الكتب، فقد التقاه في وقت مبكر من صباه، حيث كان بورخيس حينها مديراً للمكتبة الوطنية، فكانت تلك بداية قادت مانجويل إلى عوالم الكتب والمؤلفات. كان بورخيس بمثابة الكنز الذي وجده مانجويل، وظلت مقولة بورخيس:»إن الكون مكتبة»، تلازمه طوال حياته.
مشاركة :