الظاهرة اللغوية في تونس… عَوْدٌ على بدء

  • 4/25/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

اللهجة التونسية، التي يَحلو لبعض “المتفرنسين” اعتبارها لغة مستقلّة بذاتها، لا تختلف عن سائر اللهجات الأخرى، من حيث تأثرُها بلغات دخيلة، فيها أثر لمراحلَ زمنية معيّنة، وصدى لشعوب سادت ثم بادت، أو عادت من حيث جاءت، أو امتزجت بأهل البلاد. عامية غريبة في لهجتنا العاميّة أثر للشعوب التي وُجدت في بلادنا، أو حلّت بها، أو استوطنتها، وما زلنا حتى يومنا هذا نستعمل في خطابنا الدّارج ألفاظا بربرية مثل كرومة وقرجومة وفكرون، أو لاتينية مثل فلوس وبُرشني وقنّارو وفرتول، أو فارسية مثل بازار وسمسار وصرميّة وطربوش، وقد وردتْ إلينا مع العرب الفاتحين الأوائل، كما نستعمل ألفاظا تركية مثل طاوَة وبَقراج ووجَق وقازانْ، وألفاظا إيطالية مثل كمبيالْ وكْريمة وبياسَة وتَنْتُورَة ومَركانْتي، فضلا عن الفرنسية التي لم يعُد استعمالُها مقصورا على المفردات، كما هو الشأن في بداية القرن الماضي، وإنما صار حاضرا حضورا خلق ظاهرة الفرنكو آراب، أي المزج بين العربية والفرنسية في خطابنا اليومي. أي أن لهجتنا العامية أخذت ما تحتاج إليه من شتى لغات الشعوب التي حلت بأرضنا، غازية أو لاجئة، وتبنتها وتونستها. بما في ذلك الألفاظ الفرنسية أيام الاستعمار، وكانت لا تُنطَق كما هي، بل عادة ما تُحرّف وتُحوّر حتى ليحار السّامع في أصلها. والمفارقة أن هذه الازدواجية، عربية/ فرنسية، لم تشهد حدّتها إلا بعد رحيل الاستعمار، وقد بدأت مع طالبات المدارس، اللاتي كنّ يطعّمن خطابهن ببعض المفردات التي حفظنها، ثم قلّدهنّ الذكور بعد إقرار الاختلاط بين الجنسين في المؤسسات التربوية على اختلاف درجاتها، قبل أن تصبح ظاهرة عامة اجتاحت المجتمع بكل شرائحه، المتعلمة وحتى غير المتعلمة. رغم أن الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة كان يلحّ على ضرورة مخاطبة الناس بما يفهمون، فقد كان لا يمزج في خطابه بين العامية والفرنسية، مثلما كانت وسائل الإعلام لا تسمح باستعمال الألفاظ الفرنسية، حتى في عهد بن علي، بل كان المذيعون حريصين على تدارك زلات ضيوفهم، والمبادرة بتعريب كل ما يبدر منهم من مفردات أجنبية، ولو بالعامية. بيد أن المشهد تغير مع اندلاع الثورة، وظهور قنوات تلفزيونية على ملك الخواص، إذ اختلط الحابل بالنابل، وصارت اللغة المتداولة أشبه باللغة المالطية، يمتزج فيها الفصيح بالعامي والفرنسي بالإنكليزي والمصري بالطلياني، والمهذَّب بالسميج، مثلما باتت المعلقات الإشهارية التي تتصدر نواصي الشوارع ومفترقات الطرق مكتوبة بعامية غريبة، لا هي تونسية ولا هي أجنبية. وتعالت في الأثناء أصوات تريد إحلال العامية بدل الفصحى، بدعوى أنها لغة الأمومة (أو لغة الولادة أو اللغة الأولى) التي يتعلمها الطفل في وسطه العائلي ويمارسها بتلقائية دون أن تكون خاضعة لقواعد، فيما اللغة الفصحى تُكتسب بالتعلّم في وسط مدرسي وفق قواعد مضبوطة، تماما كاللغة الأجنبية.ويؤكد أصحاب هذا الرأي أن اللغة كائن حيّ، تتطور بتطور الحياة، وتغتني بما يفرض وجوده في خطاب الناس بالمراس والعادة. ولما كان هذا الخطاب اليومي في نظرهم ينطق بالعاميّة، فإن ما يتطور في الواقع هو اللهجة الدارجة، وبنسق حثيث، بينما تظل الفصحى رهينة الكتب والمجامع اللغوية، لا تتجدد إلا بمقدار ضئيل. ومن ثَمّ فإنهم يدعون إلى اعتماد العامية حتى في المؤلفات والترجمات، بتعلة التوجّه بالخطاب لأبناء الوطن، فـ“الكتابة بها أو الترجمة إليها مرتبطة بمشروع يهدف إلى إضفاء طابع محليّ بالضرورة على العمل الإبداعي/ الأدبي”، كما قال ضياء بوسالمي الذي نقل “مذكرات الشابي” إلى العامية التونسية، وعمل على تعريب “غريب” ألبير كامو باللهجة نفسها. يستوي في ذلك مع مترجمي “البيان الشيوعي” الذين زعموا أن الغاية نشر الفكر الماركسي في الأوساط الشعبية. ولم يسلم من هذه الظاهرة حتى الأدب، فبعد رواية “كلب بن كلب” التي أراد توفيق بن بريك من خلالها “إتاحة الأدب لكل من هبّ ودبّ”، أي إشاعة الأدب بين كل أفراد الشعب، صدرت روايتان بالعامية لفاتن الفازع هما “أسرار عائلية” و“ومن الحبّ ما فشل”، ورواية “ولد فضيلة” لأميرة شرف الدين وكلتاهما تزعم الغوص في المسكوت عنه، بلغة سوقية مبتذلة، تدّعي الشاعرية وهي لا ترقى إلى مستوى الأغاني العاطفية. ويخطئ من يربط هذه الظاهرة بـ“جماعة تحت السور” في ما بين الحربين أمثال علي الدوعاجي ومحمد العريبي وعبدالعزيز العروي، فما كتبوه كان أزجالا ومسرحيات وتمثيليات إذاعية، أو هم استعملوا العامية في الحوار شأن البشير خريف من بعدهم؛ وإنما هي أقرب إلى حركة الطليعة التي استجاب بعض أفرادها إلى “التَّوْنسة” باعتماد العامية في الشعر الحديث (وليس الشعبي الذي يزخر بفحول أصلاء) كصالح القرمادي في “اللحمة الحية”، والطاهر الهمامي في “الحصار” و“الشمس طلعت كالخبزة”. نزعات انفصاليةبصرف النظر عن مدى قدرة العامية التونسية على منافسة الفصحى في التعبير عن الواقع بتفاصيله وتجلياته، وتقديم صور جمالية وأفكار فلسفية مستحدثة، والوصول إلى القارئ التونسي حيثما كان، لاختلاف اللهجات من جهة إلى أخرى، فإن نشر هذه المؤلفات في أكثر من طبعة، وتوزيع بعضها مجّانا، وتهافت الإعلاميين على تقديمها والاحتفاء بأصحابها، تثير أكثر من علامة استفهام. فهي من ناحية تذكر بسبعينات القرن الماضي التي راج فيها حديث مسهب عن “لغة تونسية مستقلة عن مرجعية عربية فصحى”، وكان من دعاتها جامعي فرنكفوني يدعى الهادي البالغ صاحب كتاب “الخصوصيات اللغوية والثقافية”. وهي من ناحية ثانية تصل الحاضر بتلك المرحلة التي عقبت هزيمة يونيو 1967، وسعى خلالها بورقيبة إلى عزل تونس عن سياقها الحضاري العربي الإسلامي بالتأكيد على ما أسماه “الأمة التونسية”، ذلك المفهوم الذي استقطب في تلك الحقبة عددا من مثقفي البلاط ومستكتبيه. وفي رأينا إن الكتابة بالعامية ليست بريئة – وما التعلل بنشر الفكر والأدب في أوساط شعب لم يعد يجد ما يأكل إلا محض تضليل – فما هي إلا امتداد للدّور الذي لعبه المستشرقون منذ القرن التاسع عشر بوصفهم وكلاء الاستعمار، وعودة إلى إثارة النّزعات الانفصالية التي يغذيها المشروع الاستعماري الفرنسي في المنطقة، مرة بالتشجيع على إحياء الأمازيغيّة، ومرة بالتحفيز المادي، نقدا وعدا، على إيثار العامية على الفصحى، بوصفها “لغـة الشعب” في رأيه. والغاية قطـع آخر ما تبقى من صلة تربطنا بإخـوتنا في العروبة. ولسائل أن يسأل: لماذا نقبل العامية في المسرح والسينما والمسلسلات والشعر، ونرفضها في الأدب؟ والجواب في رأينا أن العامية في تلك الفنون تقوم مقام حوار يأتي على ألسنة الشخوص، فيما الأدب بنية سردية تقوم على لغة لها قواعدها وشروطها، علاوة على أن لكل لغة مرجعيتها وعمقها التاريخي. أما الشعر الشعبي (وليس الأزجال والأغاني)، فهو جنس ضارب بجذوره في الماضي، لم تفقده الغزوات أصالته، وقدرته على التطور من داخل المنظومة.

مشاركة :