السودان على الطريق الصحيح

  • 4/27/2019
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

جميع المؤشرات التي تمخضت عن الأحداث الأخيرة التي شهدها السودان وفي مقدمتها إزاحة الرئيس السوداني السابق عمر البشير عن سدة الحكم في البلاد، والذي استمر قرابة ثلاثة عقود بعد تنفيذه انقلابا عسكريا ضد حكومة الصادق المهدي عام 1989 والعمل المستمر على ترسيخ حكم «الإخوان المسلمين» في الخرطوم، نقول: جميع هذه النتائج تشير إلى ان السودان يتجه إلى مرحلة سياسية جديدة تماما، تتميز بالانتقال السلمي السلم نحو سلطة الدولة المدنية الديمقراطية، ذلك أن المجلس العسكري الذي تولى قيادة الدولة بعد إسقاط نظام البشير، أبدى تجاوبا وتفاهما تامين لمطالب المحتجين وقيادات الحراك الشعبي السوداني، ولم يبد المجلس أي اعتراض على هذه المطالب، وأن جل الخلاف ينصب على مدة الفترة الانتقالية التي حدد المجلس أقصاها خلال عامين فيما يطالب المحتجون بالانتقال المباشر نحو سلطة الدولة المدنية عبر تشكيل مجلس انتقالي. لم يساور أحدا الشك في أن نظام الرئيس المخلوع لم يكن في نيته الاستجابة لمطالب المحتجين، رغم ما أبدوه من سلمية تامة خلال الحراك الشعبي ورغم سقوط عدد من القتلى والجرحى على أيدي قوات النظام وأجهزته الأمنية، فقد عمد البشير إلى المراوغة السياسية والأمنية بهدف إضعاف عزيمة المحتجين السودانيين، لكن هذه النية غير الصادقة اصطدمت بصمود السودانيين وتمسكهم بمطلبهم الرئيسي وهو رحيل النظام والانتقال السلمي إلى سلطة الدولة المدنية الديمقراطية التي تتمثل فيها جميع القوى السياسية السودانية وقوى المجتمع الأخرى. هذا الإصرار الشعبي وعدم الانزلاق نحو هاوية العنف واستمرار الاحتجاجات السلمية، دفع بقادة في الجيش السوداني إلى التحرك من أجل الحفاظ على سلامة وأمن الوطن والمواطنين، ذلك أن إطالة أمد الاحتجاجات قد تدفع بالنظام إلى خيار العسكرة حفاظا على سلطته التي سلبها عبر الانقلاب العسكري على الحكومة المنتخبة، وبغض النظر عن موقف المجلس العسكري فيما يتعلق بالفترة الانتقالية، فإن خطوته التي أنتجت إزاحة البشير ورموز نظامه، جنبت، إن لم نقل أسهمت، في تجنيب البلاد ويلات الحرب الأهلية التي عانت منها دول عربية مختلفة، وعلى رأسها سوريا التي لم تخرج منها حتى الآن. فتجربة القوى السياسية السودانية مع نظام عمر البشير التي امتدت ثلاثة عقود، تعطي هذه القوى حصانة قوية ضد أي محاولة للالتفاف على مطالبها الرئيسية، وفي مقدمتها الانتقال السلمي إلى حكومة وفاق وطني مدنية ديمقراطية تقود السودان إلى بر الأمان والهدوء من أجل بناء دولة قوية يتمتع فيها جميع السودانيين، أيا تكن انتماءاتهم العرقية أو الدينية، ذلك أن على قاعدة المواطنة الحقيقية سوف يتمكن الشعب السوداني الشقيق من التعامل مع الإرث الثقيل، الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي خلفه نظام الجبهة الإسلامية بقيادة عمر البشير. فالسودان الآن تقريبا في مأمن من الانزلاق نحو الأسوأ، فالجميع، سواء المجلس العسكري الحاكم أو القوى السياسية والاجتماعية التي تشارك في عملية التغيير الحاصلة في هذا البلد العربي، جميع هؤلاء على قناعة تامة بأنه لا يوجد خيار سوى خيار الدولة المدنية الديمقراطية، فاختلاف الأطراف وتقييمهم للفترة الانتقالية، ليس بذلك الخلاف الذي يهدد الهدم الاستراتيجي لمرحلة التغيير، فهذه الفترة يمكن التغلب عليها بعدة خيارات، إما تقليصها أو الاتفاق على فترة انتقالية تحظى برضا جميع الأطراف، طالما أن هؤلاء وصلوا إلى قناعة شبه مطلقة بأن التفاهم على التغيير الحقيقي لطبيعة النظام السياسي في السودان هو الخيار الآمن والضامن لمستقبل هذا البلد. الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي خلقها وتسبب فيها نظام الجبهة الإسلامية ثقيلة وشبه مستعصية على الحل تقريبا، هذا الوضع الصعب لا يسمح للسودانيين الحريصين على مستقبل وطنهم بأن يسهموا في استفحال الأزمة وإطالتها، فالسودان بحاجة ماسة الى الهدوء السياسي والاجتماعي والعمل الجاد والمخلص من أجل وضع الأسس السليمة لبناء الدولة القادرة على مواجهة هذه الأزمات، فالسودان فقد جزءا كبيرا من ثروته الطبيعية بعد انفصال جنوب السودان عن الوطن الأم بسبب السياسة الفاشلة والكارثية التي سار عليها النظام السابق فيما يتعلق بحل مشكلة الجنوب في إطار الدولة المدنية، فالحقيقة التي قد يجهلها البعض أن الجنوبيين، وخاصة حركة تحرير السودان التي كان يقودها الراحل جون قرنق، لم تطلب الانفصال عن الوطن الأم إطلاقا، بل ان البشير أعطاهم هذا الانفصال إرضاء لأطراف دولية ومن أجل الحفاظ على نظام حكمه. على أي حال، فإن قضية جنوب السودان وإمكانية عودته إلى حضن الوطن الأم ليس الموضوع الذي يشغل بال السودانيين الآن، وليست هي القضية التي تكمن فيها الحلول للأزمة التي خلفها نظام البشير بعد سقوطه، القضية الأهم والملحة هي الحفاظ على هياكل الدولة السودانية والعمل على تصحيحها وإعادة بناء ما خرب ودمر فيها على أيدي النظام السابق، وفي مقدمة ذلك الشروع في بناء الدولة التي تقوم على أكتاف جميع قوى المجتمع من دون استثناء، هذه الدولة هي وحدها القادرة على إنجاز هذا الهدف الذي بدونه لن يستطيع الشعب السوداني التخلص من الارث الثقيل والمدمر الذي خلفه النظام الزائل. ليس هناك أدنى شك في أن الشعب السوداني قادر على بلوغ ذلك بشرط أن يتحمل الجميع، وفي مقدمتهم قوى المجتمع والمجلس العسكري، هذه المسؤولية وأن يضعوا نصب أعينهم مصلحة السودان وجميع مكونات الشعب السوداني أمامهم بعيدا عن أي شكل من أشكال الغرام بالسلطة، فالسودان يحتاج تغييرا حقيقيا وليس ترميما، ذلك لأن النظام السابق لم يترك شيئا يمكن ترميمه، بل إعادة بناء حقيقية تحفظ مصالح الوطن وأبناءه.

مشاركة :