تحاول بعض تجارب الفن التشكيلي، المفاهيميّة والتجريديّة، أن تعيد العالم إلى عناصره الأولى، تلك المكونات التي تشكل الوحدات الرئيسيّة لما يحيط بنا، كالخط والنقطة واللون، لنرى أنفسنا أمام أشكال بصريّة تعكس الأشكال الصرفة التي تتحرك ضمنها المعاني الفنية والثقافية والدينية، لتبدو الخطوط التجريدية معالم ودلائل تضبط شكل العالم وحركة مكوناته، ما يجعل الفنان أقرب لباحث أحفوري ينبش في أصل الخطوط وتحولاتها، بحثا عن الأثر/ الشكل الأول. يقيم مركز بومبيدو في العاصمة الفرنسية باريس معرضا بعنوان “نوافذ” للفنان الأميركي الذي رحل عنا مؤخرا إليسورث كيلي (1923-2015)، ونشاهد فيه 6 لوحات أو نوافذ أنجزها كيلي بين عامي 1949 و1950 وعرضت للمرة الأولى في باريس حينها، ثم تبرّع بها للمركز قبل وفاته، كهدية أخيرة للمدينة التي ألهمته هذه المجموعة. قراءة هذه “النوافذ” تتطلب الاطلاع على سيرة كيلي نفسه وتكوينه الشخصي والفني، فهو عسكري شارك في إنزال النورماندي وتحرير فرنسا، وكان عضوا في فرقة مختصّة بعمليات التمويه والتضليل العسكري، إذ كان يعمل على تصميم دبابات وعتاد أرضي قابل للنفخ لتضليل صواريخ الألمان. كما أنه قدّم تعريفا جديدا لمفهوم “جاهز الصنع”، إذ يرى أن كل شيء حوله مصنوع ومُنتهي التصميم، وعلى العمل الفنيّ أن يكون غرضا، غير موقع، فكل الاحتمالات موجودة في العالم من حولنا، وعلى الفنان فقط الاختيار منها، إذ لا داعي للبحث عن “التكوين” وجمالياته، بل تكفي المراقبة، ما جعل أعماله حسب تعبيره أشبه بتعبير غير شخصي عن “الشكل” ذاك الموجود في كلّ مكان دون أن يتم الانتباه إليه. النافذة الأولى التي أنجزها كيلي مستوحاة من الخطوط الرئيسية لنوافذ خزائن المطبخ التقليدية، إذ يحرر “الشكل” والخطوط من وظيفتها ويجعلها أشبه بعلامة على الكانفس تتجاوز التصميم الأصلي الذي يتيح رؤية داخل “الخزانة”، نحو شكل يتكرر في العديد من الأماكن كما في النافذتين الثانية والثالثة اللتين تحاكيان أعمدة أسلاك التلغراف التي كانت منتشرة في الشوارع والتي أسرت كيلي أثناء رحلاته حول فرنسا. اللوحة الرابعة هي الأكثر إثارة للاهتمام في المجموعة، والتي تحمل اسم “نافذة، متحف الفن المعاصر، باريس” ويبلغ طولها المتر والنصف، و”مصنوعة” من خشب وكانفس لمحاكاة نافذة حقيقية لمتحف الفن المعاصر الذي تحول الآن إلى “قصر طوكيو”، وتكمن أهميتها في أنها علامة فارقة في مسيرة كيلي، لأنها تمثل مفهوم “الجاهز” الذي يتبناه، ذاك الذي لا يقوم على أخذ “الغرض” من سياقه دون أي تعديل، ووضعه في المتحف كما الأعمال “جاهزة الصنع” التي تبناها مارسيل دوشامب، بل تركه في سياقه الطبيعي واقتباس شكله وإضافة تغييرات على الحجم والمواد المستخدمة، ليتحول إلى مخطط أولي، يمكن توظيفه في سياقات جديدة.النافذة السابقة تعكس مهارات التخفيّ التي يتقنها كيلي، إذ يحاول التقاط المعالم الرئيسيّة لـ”شكل” حاضر في العالم ثم ضبط خطوطه الرئيسيّة، تلك التي تكسبه هويته وتجعله مختلفا عن غيره، وهذا ما يرتبط بتكوين الموضوعة الفنيّة نفسها التي “يصغّرها” كيلي للأقصى، محافظا على حدودها التي تضبط “جوهرها” وتجعلها لا تشبه إلا نفسها، فالتصغير هنا تجريديّ يسعى نحو جوهر للشكل لا يمكن الاستغناء عن خط أو نقطة منه وإلا يتلاشى. النافذتان الخامسة والسادسة في المجموعة مستمدتان من أشهر مباني باريس وتعكسان ذات الموقف السابق، لنرى أنفسنا في النهاية أمام “النوافذ” لا بوصفها منحوتات، بل لوحات “مصنوعة” حسب تعبير كيلي، فهو لا يرسمها، بل يبني الخطوط من مواد مختلفة (خشب، قماش..) ليؤكد أن اللوحة ذاتها بشكلها المادي هي الموضوعة الفنية لا ما تمثله داخلها، والفراغ بين الخطوط ليس مساحة سلبية، بل هو مكون أساسي يكشف المعنى الحقيقي الذي يخفيه الشكل، والذي لا يحضر أمامنا مباشرة، بل يُترك للمخيّلة التي تتحرك حرة ضمن الخطوط. نشاهد في المعرض أيضا مجموعة من السكيتشات التي أنجزها كيلي للنوافذ السابقة، وصورا له في مرسمه، إلى جانب آخر لوحة كان يعمل عليها بعنوان “أبيض فوق أسود 3”، والتي لم تنته بعد، ولا يمكن إلا توقّع شكلها النهائي، لكنها حسب القائمين على المعرض تظهر للعلن للمرة الأولى، وأضيفت لمجموعة “نوافذ” دون أي مبرر.
مشاركة :