يتصاعد الجدل بين فترة وأخرى حول الحاجة إلى بلورة نظرية نقدية عربية للتخلص من تبعية النقد العربي للنقد الغربي ومدارسه الحديثة، باعتبارها تمثل تبعية ثقافية للغرب. وفي سياق هذه الدعوة يحاول بعض المطالبين بهذه النظرية، وفي المقدمة منهم الدكتور الراحل عبدالعزيز حمودة، طرح أكثر من قضية لتبرير هذه الدعوة، التي تتجاوز في دلالاتها مسألة الخصوصية والهوية الثقافية، إلى اتهام هذه النظريات النقدية الغربية بتياراتها المختلفة، بأنها اتخذت من المعارف الإنسانية كعلم النفس والأنثروبولوجيا والسياسة والفلسفة مرجعية لها في صياغة رؤاها ومفاهيمها النظرية والإجرائية، ولذلك يرون أن أخطر ما في هذه النظريات هو القول بإبداعيتها. إن هذا النقد الذي يقدمه أصحاب النظرية العربية يتجاوز في معناه مسألة التبعية الثقافية، إلى نقد النقد الغربي الحداثي منه وما بعد الحداثي، باعتبار أن هذا النقد قام بسرقة النص، وبالتالي أساء إلى وظيفة الأدب، إضافة إلى أنه حاول اغتيال المؤلف لصالح المتلقي، في حين عملت الاتجاهات الماركسية على المبالغة في دور الأدب. لذلك فإن الدعوة لنظرية نقدية عربية تتجاوز مسألة الحفاظ على الهوية الثقافية العربية، إلى نقد مرجعيات هذا النقد اللغوية والنفسية والفلسفية والفكرية، التي حرفته عن مساره الأدبي منذ منتصف خمسينات القرن الماضي وحتى الآن. إن محاولة النيل من هذا المنجز والتشكيك في قيمته الإبداعية، تعد مقدمة لا بدّ منها عند هؤلاء الدعاة لتبرير الدعوة إلى فك عرى العلاقة مع هذا النقد، والدعوة إلى نقد عربي يعيد للنقد وظيفته الحقيقية. تستدعي هذه الدعوة عددا من الأسئلة الخاصة بالأدب، فالرواية والمسرح لم يكونا معروفين في تراثنا العربي، وقد وفدا إلينا من الغرب أثناء الاتصال الذي حدث مع الثقافة الغربية، وطالما أن ممثلي هذه الدعوة يريدون تحرير النقد العربي من التبعية للثقافة الغربية فلماذا لا يدعون كتاب الرواية والمسرح إلى التخلي عن شكل الكتابة الروائية والمسرحية الأوربية، وكتابة رواية ومسرح عربيين في سياق فني وجمالي خاص بهما؟ خاصة وأن الرواية العربية ما زالت تخضع بصورة كبيرة لتأثيرات الرواية الغربية وأسسها الفنية والسردية بعد أن فشلت كل المحاولات التي سعت للمزاوجة بين أشكال الكتابة الروائية والمسرحية الحديثة، وأشكال السرد والفرجة المعروفة في تراثنا. إن المفارق والمدهش أن تأتي الدعوة إلى نظرية نقدية عربية بمعزل عن الحديث عن سياقها الثقافي، وكأن مثل هذه النظرية يمكن أن تتكون استنادا إلى جملة من المفاهيم العامة التي قدمها النقد العربي القديم قبل عشرات السنين، في حين يشهد النقد الغربي فورة في المناهج النقدية، وتعددا كبيرا في الخيارات، فهل يمكن لنظرية نقدية أن تتكون دون التفاعل مع هذا المنجز الثري؟ كذلك يبدو المفارق والغريب أن هذه الدعوات تظهر في زمن تسقط فيه الحدود الجغرافية ويتحول العالم إلى فضاء مفتوح، ما يجعل الحديث عن الهوية والخصوصية الثقافية بمعناها التقليدي نافرا أمام تحديات الواقع الجديد، وتفقد بالتالي مبرراتها الموضوعية.إن التطور الكبير الذي شهده النقد الغربي الحديث بمدارسه واتجاهاته الكثيرة، يجعل من الصعب الحديث عن نظرية نقدية غربية، فإذا كانت النظرية الواحدة كالبنيوية أو النسوية أو الماركسية تشظت إلى تيارات واتجاهات مختلفة، فكيف نطالب بنظرية نقدية عربية في ضوء هذا التعدد والتكاثر للنظريات والمفاهيم والرؤى؟ لقد تأثر الشعر العربي الحديث بدءا من رواد الحداثة وقبله شعراء الرومنسية والمهجر بالشعر الغربي ولم يكن ذلك تبعية لأنه تم تمثل هذه المؤثرات والاستفادة منها في تطوير بنية القصيدة وجماليات التعبير فيها. كذلك استجلبت الرواية والمسرح والقصة معها خصائصها الفنية والجمالية من الأدب الأوروبي، ولم يزل هذا التفاعل قائما، فهل تكون بلورة النظرية النقدية العربية كفيلة بتصحيح هذه العلاقة وخلق سياق خاص بها، أم إن النقد سيتحرك في فضاء خاص به بعيدا عن علاقة التفاعل مع هذا المنجز بنسخته الراهنة؟ إن إشكالية هذه الدعوة تنبع من إلغاء القيمة الإبداعية والإضافات المهمة التي قدمها النقد الغربي الحديث منذ أواسط الخمسينات الماضية، في وقت تنشط فيه علاقة الانفتاح بين الثقافات العالمية حيث تلعب الترجمة دورا مهما في هذا السياق. إن التعبير عن حيوية الثقافة العربية وقدرتها على الإبداع لا يكمن في عزلتها بقدر تفاعلها مع الثقافة الإنسانية، ولذلك بدلا من الدعوة إلى الانغلاق على الذات يمكن أن تكون الدعوة إلى المشاركة العربية الفاعلة والغنية في إثراء وتطوير المنجز الغربي الراهن، لكي نعبر عن انتقالنا من موقع التابع إلى دور المشارك، ومن دور المتلقي السلبي إلى دور المبدع كما هو الحال بالنسبة لإسهامات إدوارد سعيد وحسن حنفي في النقد الأميركي، والإضافات المهمة التي قدماها للثقافة الغربية. تحتاج الثقافة العربية ككل والنقد العربي الحديث كجزء من هذه الثقافة، إلى الإبداع والتجديد في عصر سريع الإيقاع والتحول. لذلك قبل أن ندعو إلى نقد عربي علينا أن ندعو إلى خلق الشروط الموضوعية والظروف التي تجعل هذه الثقافة والتلقي ينتقلان إلى موقع المشاركة والتأثير. إن وجود ثقافة تمتلك هذه الحيوية والثراء والتطور سوف يؤدي إلى انتقال النقد من موقع التلقي والانبهار بالنقد الغربي، إلى موقع الإبداع والمشاركة الفاعلة في تطوير هذا النقد وفتح آفاق جديدة أمامه. لم تعد المفاهيم القديمة للأجناس الأدبية كما كانت عليه سابقا. لقد انفتحت هذه النصوص على بعضها البعض بعد أن سقطت الحدود في ما بينها، كما انفتحت على الفنون الأخرى، ولذلك ظهرت نظريات التناص التي تبحث في علاقات التفاعل هذه. إن ما يصح على الفنون والأجناس الأدبية الأخرى يصح على النقد في علاقته بالنظريات النفسية والاجتماعية واللغوية والفلسفة، خاصة وأن هذه العلاقة هي التي فتحت أمام النقد الأوروبي مجال تحقيق هذا التقدم وهذا الثراء في النظريات والرؤى والمفاهيم حتى أصبح الناقد يحتاج إلى كثير من الجهد حتى يستطيع أن يلم بها.
مشاركة :