كنت صبياً صغيراً عندما وجهنا أبي بتجهيز «الركوبة» التي ستعود بالشيخ يحيى عبدالخالق عباس إلى قريته المجاورة «مونسة» عندما كان صوت القارئ الشاب ينبعث بقوةٍ من سرادق العزاء في عمي «عبدالغفار». قال الشيخ يحيى مندهشاً ومتمتماً، وأظنه غير حانق: من أين جاء هذا الولد! والحق أن أحداً بمن فيهم الشيخ يحيى عميد القُرَّاء بالمنطقة في ذلك الوقت، كان يدري أن هذا الولد «شعبان الصياد»، سيُحلِّق في سماء التلاوة العالمية، ويكون حديث الناس في كل مكان!! وكان ما كان وسافرت إلى العراق، حيث جلستُ أستمع لصوت القارئ الشيخ محمود الطبلاوي، وقد اغرورقت عيناي بالدمع، حين دخل الكاتب الكبير محمود السعدني، قائلاً: الله الله يا مولانا! هل قرأت ما كتبته عنه في كتابي «ألحان السماء»؟! قلت: بلى! قال: اقرأ ما كتبته عنه وعن دولة التلاوة! وقد كان! يقول السعدني في وصفه للقُرَّاء: إن الأصوات كالوجوه، لكل منها سحنة خاصة، فهناك أصوات تنفر منها، وأصوات تُدخل السرور عليك، وأصوات ترتاح إليها، وأصوات تجعلك بالرغم منك تعشقها وتحبها.. والأصوات كالمعادن، بعضها كالصفيح، وبعضها كالفضة، وبعضها له بريق الذهب، وبعضها له رنينه، ويندر جداً أن يكون الصوت من ذهب! وفي وصفه للشيخ الطبلاوي يقول السعدني: إنه آخر حبَّة فى سبحة عمالقة التلاوة، وهو العبقرى الوحيد الذى وهبه الله أحبالاً صوتية ليس لها نظير الآن على الساحة! ويضيف: لقد عرّفني عليه الشاعر العراقي حميد سعيد، قائلاً: عندما أسمعه، أنفجر باكياً.. إن صوته يحمل هموم وأحزان كل العرب القدامى والمحدثين! وفي وصفه لابن «شعشاع» القارئ الشيخ عبدالفتاح الشعشاعي، يقول السعدني: لم يظهر حتى الآن من يستطيع تقليد صوته، والسبب أن الطريقة التي يقرأ بها الشيخ عبدالفتاح تحتاج إلى صوتٍ قوي فتيٍّ نقي، وما أندر الأصوات القوية في دولة القراءة.. لقد سار على دربه ابنه الشيخ إبراهيم الشعشاعي، ورغم تفوّقه واجتهاده لم يصل إلى الذروة التي وصل إليها والده العظيم. أما عن ابن قرية «دروة» القارئ الشيخ عبدالرحمن الدروي، فيقول السعدني: إنه صاحب القرار السليم والنبرة الشجية الحزينة المتفردة التي تهز النفوس.. لقد عاش متنقلاً بين القاهرة والمنوفية، بعد أن رشَّحه محمود فهمي النقراشي للإذاعة.. ولأنه كان مأذوناً شرعياً، فإن كل الزيجات التي تمَّت في منطقته جاءت على يديه.. والمدهش أنه لم يكن يتقاضى أجراً على القراءة، وعقد القران في قريته. وعن الشيخ محمود علي البنا ابن قرية «شبرا باص بشبين الكوم» يقول السعدني: إن الشيخ كان «ناصرياً» ومعجباً على نحو ما بالرئيس الراحل جمال عبدالناصر، باعتباره منحازاً لصفوف الفقراء! وظل حريصاً على قراءة القرآن في بيت عبدالناصر في ذكراه كل عام.. وكما كان جميل الصوت، كان جميل الصورة، وكان خير سفير للإسلام في كل مكان. ويروي عن الشيخ محمود البجيرمى، الذي وُلد بقرية بجيرم أنه كان يقرأ فى مسجد عمر بن عبدالعزيز، عندما دخل الملك سعود بن عبدالعزيز -يرحمه الله- فاستمع له يتلو قوله تعالى: «ربنا إنى أسكنت من ذريتى بوادٍ غير ذى ذرع عند بيتك المحرم»، يومها بكى الملك سعود عقب التلاوة، محيياً ومردداً: أبكيتني أيها الشيخ بصوتك الندي العذب. لقد كان الشيخ البجيرمي واحداً من أفضل نجوم التلاوة في مصر، في الفترة من نهاية الستينيات إلى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، ساعده على ذلك صوته الجميل وشخصيته القرآنية المستقلة. سألت الصديق الخلوق الباحث المؤرخ شكري القاضي نائب رئيس تحرير جريدة «الجمهورية»، ومؤلف الكتاب الرائع: «عباقرة التلاوة في القرن العشرين»، لماذا لا يتم إعداد طبعة ثالثة، تجمع فيها ما تيسَّر عن قُرَّاء القرن الواحد والعشرين الذي نعيشه الآن؟! قال ضاحكاً: يقيناً لو سمعت لفعلت!. والحق أنني تمنيتُ المزيد والمزيد من البحث أو الغوص أو التنقيب أو التحليق في سماء هذه الدولة العظيمة.. دولة التلاوة! كنتُ قد استمعتُ قبل سنوات لقارئ شاب في قرية البتانون، وكتبتُ عنه، متوقعاً له مستقبلاً كبيراً، وقد كان.. إنه القارئ الشيخ فاروق ضيف، الذي يشق طريقه مع شقيقه يوسف، مُحلِّقين في السماء.
مشاركة :