تكاد تكون لوحة الفنان رينيه ماغريت التي تحمل عنوان “ومضة” من عدة لوحات، جسد فيها موضوع الأزهار مدخلا إلى معنى ومصير الأزهار الطبيعية في عالمنا المعاصر، أسوة بكل ما يحيط بنا من تغييب للمعنى وانتصار للصور على الأصل، لا بل تكاد هذه اللوحة تكون مُنذرة بزمن تلتبس فيه كل الصور وتتآخى فيه التناقضات وتتجسد فيه الأشياء في أماكنها غير الاعتيادية، لتصبح هي زيفا يقبع في زيف منفتح على حقل التلاشي التدريجي لإنسياتنا بالمعنى الذي لا يزال متعارفا عليه حتى اليوم. أطلق الفنان كعادته عنوانا غير منسجم مع ما يقدمه فيها، “ومضة” هي لوحة من نوع “الطبيعة الصامتة” يجسد فيها شجرتين مزهرتين وخلفهما سماء صافية، مشهد الزرقة يمكن رؤيته من خلال منفذ أخذ شكل باقة أزهار موضوعة في إناء، أول ما نراه هو شكل الشجرتين لنكتشف بعد ذلك أن ما يحدد شكلهما هي الأزهار. وفي الآن ذاته يرى الناظر إلى اللوحة الأزهار قبل أن يرى الشجرتين اللتين أيضا تبدوان وكأنهما موضوعتين في الإناء، التباس متوازن يُشرعن مصداقية الرؤية المزدوجة مما يجعل من الأزهار والشجرتين سورياليتين بامتياز ولا ينتميان إلى الواقع الطبيعي، بل إلى مشهد تُجهض فيه الحقيقة الواحدة. هكذا نرى في اللوحة الداخل والخارج في الآن ذاته ولا نستطيع أن نصل إلى “متاهة” واحدة، هل الشجرتان تحددان الأزهار أم العكس بالعكس؟ وأي نافذة هي تلك التي تطل على ذاتها من خلال إطلالتها على ما كان خارجها؟ وكيف يمكن لهكذا “تجلّ” أن ينهار خارج واقعيته وهو محبوك بفطنة وتقنية عاليتين لا تريدان إلاّ الاستهزاء بما نعتبره لا يشير إلاّ لذاته؟ بشر الفنان العبقري رينيه ماغريت وبشعرية وفنية كبرى باقتراب ظهور أفكار تتطابق مع ما نعيشه، وأهمها ما أسهب في الكتابة عنه جان بودريار وأنبرتو إيكو. الأزهار في لوحات الفنان رينيه ماغريت لم تكن ولا في لوحة من لوحاته مجرد أزهار، وهي كانت لن تكون كذلك لو أن جان بودريار اختار أن يصوّرها ويضيفها إلى مجموعة صوره الفوتوغرافية الرائعة بالشكل والمضمون، وهي اليوم، أي أزهار رينيه ماغريت، ونحن ننظر إليها تحدث ببعض ما نعيشه الآن وما نستشعره مجسدا في باقات الأزهار الاصطناعية التي باتت مزروعة في كل الأمكنة من حولنا: في المنازل والشرفات والمكاتب والمقاهي ومداخل الأبنية وبمحاذاة الشوارع في زمن التلوث العارم، والذي نحن الأحوج فيه إلى عروق أزهار ونمو أشجار تنبض بالحياة لتخفف من وطأة العيش بعالم اصطناعي يزداد زيفا حتى الصميم. المُدافعون عن الأزهار المزيفة هم كثر، منهم من يعتبرها أجمل من الحقيقة (وفي ذلك صدى مدوّ لأفكار المفكر الفرنسي لكل من جان بودريار وأنبرتو إيكو) فيختارون منها الأقرب إلى الواقع وبتخطّ فني هو أقله اعتداء على كل ما ترمز إليه تلك الأزهار، ومنهم من يُغرقها بعطور اصطناعية ومنهم من يتركها عابقة بهول العدمية، ومنهم ما يرى أنها أفضل من الطبيعية لأنها لا تحتاج إلى أن “يُصرف” عليها وقت لإبقائها حيّة في زمن السرعة. وهي غير مُتطلبة لجهد العناء برعايتها وريّها وتشذيبها واختيار الأماكن المُشمسة أو غير المُشمسة والمناسبة لها، وهي أزهار “مريحة” وليست حساسة كما في أغنية المطرب اللبناني ملحم بركات في الإشارة إلى العاطفة الإنسانية بشكل عام والمرأة بشكل خاص “ما في ورد بيطلب ميّ/ الورد بيبقى سكوت/ إن ما سقيتو شوي، شوي، على السكت بموت”. ولعل عاشقي الأزهار والورود الاصطناعية محقون في استبعادهم للأزهار الطبيعية التي تود لو تروى على مهل، إذ كثيرا ما نرى أزهارا في الطرقات قد ذوت وأشجارا ماتت في بيروت وغيرها من الدول العربية من الإهمال والعطش، لتقف منتصبة بيبسها كرايات ترمز إلى مواطنية جديدة تثمن الفناء والبشاعة، في وقت تفرض قوانين في أحد البلدان الأوروبية بزراعة النباتات والأزهار الطبيعية والاعتناء بها على كل شرفات المنازل. بشاعة مشهودة باتت غير ملحوظة لتكاثرها واجتياحها لكل الأمكنة. الزمن هو زمن الأزهار الاصطناعية المكتسية بالغبار وتلك التي يتم “شكها” في أحواض لا تحتاجها لأنها غير طبيعية، حتى أن بعض الناس يشترونها من المحلات مسكوبة أعناقها في مادة رزين شفافة “تحاكي” هي الأخرى الماء، تلك المادة الحيوية الأثمن من الذهب. وبعد أن تتلف “المزيفة” يصار إلى رميها في احتفالية مضاعفة للموت، موت على موت، اختيار فذ على حساب أزهار تشبهنا بزمن عيشها القصير، وكيف لا ونحن في زمن الكثرة وليس النوعية والتخمة وليس الوفرة، والعلاقات الإنسانية الواهية وليس الحب؟ الصورة وليس الأصل والتكاذب وليس الصدق؟ “صدق” يحيلنا إلى ما تصنف به اللوحات التي تجسد الأزهار كموضوع رئيسي باللغة الفرنسية أي “الطبيعة الميتة”، وليس تلطيفا لهذه التسمية بتعبير “الطبيعة الصامتة” كما في اللغة العربية والإنكليزية. إنه زمن أزهار الفنان رينيه ماغريت، تلك التي تنفي ذاتها كلما اقتربنا منها، إنه زمن الأزهار الصادقة التي تشبهنا.
مشاركة :