اعتاد القائمون على مؤسسات العمل الخيري في بلادنا على اغتنام شهر رمضان المعظم؛ كي يقوموا باستنهاض همم فاعلي الخير للتبرع للأعمال الخيرية، ثم ينصرف كثيرون منهم بعد ذلك للبحث عن مصادر أجنبية أو حكومية للتمويل، الأمر الذي يتسبب في تقييد حرية هذه المؤسسات، وتعريضها لكثير من الأزمات في علاقتها بالسلطات الحكومية التي لا ترتاح لوفود التمويل الأجنبي، وكذلك في علاقتها بالجمهور بحيث تفقد كثيراً من ثقته بسبب هذا التمويل الأجنبي ذاته. وفي مصادر تراثنا الخيري الحضاري غنى عن كل من التمويل الأجنبي والحكومي، وعما ينشأ عنهما من أزمات ومشكلات، وبخاصة في أنظمة الوقف والزكاة والصدقات. لقد نشأ نظام الوقف في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان لبنة مؤسسية تعبّر عن مفهوم الرحمة ومكارم الأخلاق تعبيراً عملياً منذ البدايات الأولى لإرساء أصول المجتمع والدولة معاً. ومع اتساع الفتوحات الإسلامية ووصولها إلى مشارق العالم القديم ومغاربه؛ اتسعت الدائرةُ الاجتماعية للنسق العملي التطبيقي لمفهوم «الرحمة» من خلال الصدقات الموسمية والدائمة، المفروضة والمستحبة. وكان نظام الوقف أحد أنظمة التراحم التي حظيت بدرجة عالية من الانتظام والاستقرار والاستقلال في الأداء. ولا تزال آثاره شاهدة على ذلك في مختلف بلدان الأمة الإسلامية. وهناك تقديراتٌ تشيرُ إلى أن نسبة تتراوح بين 30 في المئة و50 في المئة من الممتلكات العقارية غير المنقولة (من المباني والأراضي الزراعية) في كثير من بلدان الأمة الإسلامية في العصر العثماني كانت موقوفةً، وظلت كذلك إلى مشارف القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي). وبتدقيق النظر في مكونات ما أسميه «نسق الرحمة ومكارم الأخلاق»، يتبين أنه ظل متمتعاً بدرجة عالية من الاستقلالية عن نسق «العقلانية» والعدالة التي ترعاها الدولة من خلال فرض الضرائب والرسوم وجباية الزكاة. كما يتضح أن هذا النسق قد استمدَّ موارده الاقتصادية من أثبت مصادر الثروةِ التي قام عليها النشاطُ الاقتصادي الحر في أسواق المجتمعات الإسلامية؛ وهي الأراضي الزراعية، والعقارات المبنية؛ إضافةً إلى بعض المنقولات التي أجاز الفقهاءُ وقفها في حدود ضيقة. فالزكاة والوقف والهبة والوصية كلها ارتكزت على الأراضي الزراعية والعقارات المبنية بالدرجة الأولى؛ إذ لم يكن قطاع «المال/النقد» قد تطورَ أو انفصلَ بذاته كأحد قطاعات الاقتصاد الكلي، كما هو الحال في الاقتصاد المعاصر، وعليه لم يكنْ متاحاً سوى الأراضي والعقارات وعروض التجارة للتصرف فيها والانتفاع بها. وقد مضى وقتٌ طويل حتى أجازَ الفقهاءُ المجتهدون وقفَ النقود في العصر العثماني. وأفتى المتأخرون وبخاصة في المجامع الفقهية بجواز وقف الصكوك وأسهم شركات الأموال المستغلة استغلالاً جائزاً شرعاً. كانت الممارسات الأولى للجانب المادي لمفهوم الرحمة في الجزيرة العربية على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ عبارة عن تبرعات وإحسانات محدودة. ثم ما لبثت أن اتجهت هذه الممارسات في العهد الأموي لتتركز في الدور والحوانيت والرباع وما في حكمها ثم امتدت إلى الأراضي الزراعية في البلدان التي جرى فتحُها تباعاً مثل: العراق، والشام، ومصر. وسجلت بعض المصادر التاريخية أن المقتدرَ العباسي (ت 320هـ) قد وقفَ الأراضي المحيطة بمدينة بغداد، ووقف أيضاً ضياعاً في السواد، وبلغ ريعها السنوي آنذاك مئة ألف دينار. أما في مصرَ- كمثالٍ آخر- فقد ظهرت وقفياتٌ زراعية قليلة قبل الدولة الإخشيدية التي حكمت مصر في القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي. وبنظرة عامة؛ نقرر باطمئنان أنه: منذ نهايات الدولة العباسيةِ، وطوال عصر المماليك والعثمانيين من بعدهم؛ موّل نسق الرحمة ومكارم الأخلاق أعمال التراحم العام، وغطت الصدقات الموقوفة والإحسانات الموسمية مساحات واسعة من الأراضي الزراعية في مختلف أنحاء البلدان الإسلامية، إلى جانب أعداد كبيرة من العقارات المبنية والمنقولات. وتحولت هذه المبادرات في أغلب الحالات إلى مؤسسات متنوعة: دينية وتعليمية واجتماعية وترفيهية؛ مثل المساجد والمدارس ودور الأيتام، والمضايف، والمتنزهات العامة؛ وأسهمت بنصيب كبير في نهضة المجتمعات الإسلامية وتحضرها. وكما أسهم المحسنون والمحسنات من أبناء المجتمع في تكوين الإرث التراحمي للأوقاف، أسهم الحكام والسلاطين في هذا التكوين أيضاً. إذا أخذنا في الاعتبار الطبيعةَ الخاصةَ للزكاة، وحلّلنا أداء «الأوقاف» وبقية مكونات نسق «الرحمة ومكارم الأخلاق العملية»، يتبينُ بأيسر نظر أن «الوصية» كانت «أخت الوقف»، وأن الوقفَ كان مكملاً للزكاة في أحوال كثيرة؛ إذ بقي الوقف في مركز هذا النسق من حيث ديمومته واستقراره واستناده إلى أبنية مؤسسية متنوعة، كما يتضح أن التأثير الكبير في النظام الاجتماعي العام يرجع إلى سبب أو أكثر من الأسباب الآتية: أ- أن الأعيان الموقوفة من العقارات المبنية والأراضي الزراعية زادت زيادة تراكمية بمرور الزمن. وكان من أهم أسباب ذلك: الأخذ بمبدأ «تأبيد الوقف»؛ بما يعني ديمومة العطف العملي على الفقراء والمساكين وذوي الخصاصة، وهو ما ذهب إليه جمهورُ الفقهاء؛ وبخاصة فقهاء المذهب الحنفي، الذي أصبح مذهباً رسمياً للدولة العثمانية وولاياتها. وفي بلدان المغرب العربي، إذ يسود المذهب المالكي، كان بعض الواقفين يرغبون في أن تكون وقفياتهم بحسب «المذهب الحنفي»؛ حرصاً منهم على الابتعاد عن بعض القيود التي يضعها فقهاء المالكية في الوقف، وأهمها شرطان هما: حيازة العين الموقوفة بيد الواقف، وقبول الموقوف عليهم لأن يكونوا من مستحقيه؛ وهما شرطان قد يؤديان إلى «تأقيت» أثر الإحسان والشفقة التي يقصدها أصحاب المبادرات الخيرية. ولكن وقائع التطور التاريخي لنسق الرحمة ومكارم الأخلاق تشير إلى أن نموَّه الاقتصادي التراكمي قد شهد موجات من المد في الفترات التي مرت فيها المجتمعات الإسلامية بالاستقرار، وموجات أخرى من «الجزر» في أوقات الفتن والاضطراب؛ الأمر الذي تكرر حدوثه في عهد المماليك بشكل لافت للنظر، وفي عهود أخرى بمعدل أقل؛ إذ دأب بعض الحكام من السلاطين والأمراء على مصادرة الأوقاف مثلاً لتحقيق أطماعهم الشخصية، أو لتمويل أعمالهم الحربية أحياناً؛ ومن ثم كانت المكونات الاقتصادية لهذا النسق تنخفض في مثل تلك الحالات، ويصيبها الكساد، ومن ثم كان إسهامها يتراجع في البناء الحضاري والنهضة الاقتصادية وإشاعة التراحم والسكينة العامة. ثم ما تلبث الأحوال أن تستقر، فيأتي حكام آخرون يسعون لإصلاح ما أفسده سابقوهم، ورد ما اغتصبوه منها. وكان الحكام الجدد في أغلب الأحوال يقصدون تعزيز شرعيتهم السياسية بانتهاج سياسة إصلاحية تجاه المكونات الكبرى التي يتشكّل منها النسق العام للرحمة، وبخاصة الأوقاف وبقية التصرفات الخيرية؛ وعليه كانت مؤسسات هذا النسق تعود إلى النمو والازدهار، وتسترد فعاليتها. ب- إن تنوع أساليب الانتفاع من أعيان ممتلكات «نسق»، الرحمة ومكارم الأخلاق، قد أسهم في تعزيز الشعور العام بالسكينة والطمأنينة العامة، وشيء من الرواج الاقتصادي؛ إذ جرى التعامل في أعيان الوقف بصفة خاصة عن طريق الإيجار، والحكر، والخلو، والمزارعة، والمساقاة، والمغارسة، وغير ذلك من أساليب الانتفاع، التي وإن اختلفت أسماؤها من بلد لآخر؛ إلا أن مضامينها متقاربة في جملتها، وبعضها مثل الإجارة لا يختلف كثيراً عن الإجارة في الأملاك غير الموقوفة. وفي بعض الفترات ظهرت سلبيات كثيرة من جراء استخدام بعض تلك الأساليب، خاصة «الحِكر»، وهو أسلوب انتفاع عانت منه الأوقاف في معظم البلدان الإسلامية، وأدت سلبياته إلى تشويه النسق العام لمكارم الأخلاق الفردية والجماعية. ج- إن نموَّ التكوين الاقتصادي لنسق الرحمة ومكارم الأخلاق وقطاعه الخدمي، إلى جانب زيادة نسبة الذين يؤدون الزكاة لبيت المال؛ كان يعني في معظم المراحل التاريخية نمواً مطرداً لقطاع «الاقتصاد الاجتماعي»، ضمن أنساق الاقتصاد العام، من ناحية، وكان هذا النمو يَحدُّ من إمكانات توسع اقتصاد السوق الرأسمالي في المجتمعات الإسلامية من ناحية أخرى، ومن ثم كان يؤدي إلى توفير شبكة واسعة من أعمال التضامن الاجتماعي والرعاية الاجتماعية، ذلك لأن دخول بعض الموارد الاقتصادية في دائرة «نسق الرحمة ومكارم الأخلاق» كان يعني عدم خضوعها لآليات السوق، وخروجها من «نسق المنافسة الاقتصادية» التي لا تعرف سوى لغة المكسب والخسارة. وتجلى هذا بوضوح في قطاع إنتاج السلع والخدمات العامة وتوزيعها؛ إذ كان الهدف الرئيس لنسق الرحمة ومكارم الأخلاق هو توفير تلك السلع والخدمات مجاناً، أو بأسعار رمزية من خلال إنشاء وتمويل مؤسسات ومرافق عامة تقدم أنوعاً مختلفة من الخدمات لم يكن يقبل عليها أصحاب المشروعات الربحية الخاصة في السوق الحر، ومن أهمها: المياه، وهي مرفق بالغ الحيوية لكل عمليات التمدن والتطور الحضاري، وكذلك الخدمات التعليمية والصحية والترفيهية وبعض الخدمات الأمنية؛ إلى جانب تقديم مساعدات نقدية وعينية لبعض الفئات ذات الاحتياجات الخاصة. ويحفل السجلُّ التاريخي بنماذج كثيرة تدل على ذلك في مختلف البلدان الإسلامية. وعلى رغم تشديد جمهور الفقهاء على عدم جواز بيع الموقوف سواء كان عقاراً أم منقولاً أم أراض زراعية، إلا أن ثمة عديد من الفتاوى التي تدل على أن «الرحمة» هي المقصد الأسنى من الوقف، وليس حبس الأراضي أو الممتلكات عن التصرف مقصداً في حد ذاته، وأن الرحمة بالمنكوبين أولى من الالتزام بقاعدة عدم جواز بيع الأحباس. ومن ذلك ما ورد في نوازل الونشريسي قال:» قرر الفقهاء أنه في سنة المجاعة ووقوع المخمصة؛ لا يحل بأي شكل استبقاء الأرض المرصودة للوقف دون استفادة منها، وإنما يجب بيع الأرض المحبوسة على الفقراء مراعاة لأولويات الضرورة، ولأن استبقاء أنفسهم وعدم الإفراط في هلاكهم أفضل عند الله وأقرب للطريق المثلى من بقاء الأرض بعد هلاكهم أو موتهم».[أبو العباس أحمد بن يحيى الونشريسي (ت:914هـ)، المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب (الرباط: وزارة الأوقاف المغربية، ودار الغرب الإسلامي، 1401هـ/1981م)ج/7، ص 332]. إن بحث التكوين التاريخي لمكونات «نسق الرحمة ومكارم الأخلاق» ودوره في نشر السكينة العامة يؤكد على أن هذا النسق قد احتل منذ نشأته الأولى موقعا تأسيسياً في صلب البناء الحضاري الإسلامي ونظمه الأساسية، وأنه لم ينشأ لاحقاً على وجود هذا البناء. وهذه ملاحظة فارقة يتعين أخذها في الاعتبار عند إجراء أية مقارنات بين هذا النسق في خبرة المجتمعات الإسلامية، وغيرها من المجتمعات، وبخاصة الغربية التي عرفت نمواً لقطاع الشفقة أو ما يعرف بالقطاع الخيري، أو غير الهادف للربح، أو «القطاع الثالث»، أو ما يسمى في التقاليد الفرنسية باسم: «الاقتصاد الاجتماعي». وأدى اطراد الممارسة الاجتماعية الاقتصادية لمنظومة «الرحمة والأخلاق ومكارمها» ومكوناتها الرئيسية؛ بما فيها الزكاة والوقف وبقية الصدقات غير المفروضة؛ إلى تحويلها لنسق مدني فرعي ذي مرجعية إسلامية، وكثيف العلاقات مع بقية أجزاء النظام الاجتماعي العام. وفي إطار هذه الوضعية كانت فاعلية هذا النسق هي الوجه الآخر لاقترابه من المقاصد العامة للشريعة، وكانت الوظيفة التاريخية الكبرى له في حال فاعليته هي الإسهام في بناء مجال مشترك بين الأمة والسلطة، أو بين المجتمع والدولة، ولمصلحتهما معاً.
مشاركة :