هالتني قلّة المعروض في محيطنا العربي عن فكر الفيلسوف والناقد الثقافي السلوفيني سلافوي جيجيك، الذي جابت أفكاره الدنيا وشغلت الناس، ويرى فيه كبار مفكري الغرب وقلة من المختصين العرب، أهم فلاسفة أوروبا المحدثين، على رغم أنه اهتم في كثير من أعماله بقضايا تمس واقعنا العربي تتعلق بالاستبداد، وصراع الطبقات الجديد، وانبثاق أطر غير مرئية جديدة للعولمة، وتوحش الرأسمالية في طبعتها النيوليبيرالية، وقضايا اللاجئين والإرهاب و"داعش"، ومجتمعات الاستعراض والاستهلاك، وما أقربنا نحن العرب منها. اهتم جيجيك بقضايانا، بينما نحن في واقع الأمر تجاهلناه ولم نعرفه. لذلك، نناقش اليوم رؤاه وأفكاره وفلسفته بمنطق غير المختص. ولم أجد مدخلاً لرؤية فلسفته وأفكاره، في تبسيط غير مخل أفضل من أحد أفلام السينما المصرية. هل تذكرون فيلم أحمد حلمي "ظرف طارق"، والمشهد الذي يطلب فيه مجدي كامل من حلمي ساندويتش، قائلًا: "اعملي ساندويتش فول من غير سلطة طماطم"، فيرد عليه حلمي قائلاً: "ما فيش سلطة طماطم، أعملهولك من غير سلطة طحينة". وحتى لا نذهب بعيداً، فأنا لن أكتب عن الفيلم، إنما أكتب من خلاله عن فكر وفلسفة جيجيك، بعيداً من السياسة، وإن كنت لا أضمن مكرها وفضولها، فما فتئت تدس أنفها وتتمدد في فضاءات حياتنا، على رغم أننا نعيش اليوم "عالم ما بعد السياسة"، عالم الأشباه، حيث الصورة والمضاهاة والافتراض وتسيّد قيم الاستهلاك والاستعراض، بخلاف ما كان عليه الأمر القرن العشرين، إذ كان التهافت على القراءة والثقافة والفن والمسرح والآيديولوجيا والسياسة، إذ إننا نعيش اليوم طبخة القرن الحـ21، حيث الطبق المفضل وسائل التواصل الاجتماعي ومنصاته، والشغف المرضي بالعالم الرقمي والأتمتة وحقوق الأقليات والعولمة الظالمة وبطولات الوهم والتقاط صور النضال المصنوعة ووضعها على "انستغرام" و"فيس بوك" و"تويتر". هذا هو حال عالمنا اليوم، ومجتمعنا الكبير الذي سماه جيجيك "مجتمع الاستعراض والاستهلاك" والذي تحول معه "الفضاء الافتراضي" إلى "واقعية متوهمة" يعيشها الناس على رغم علمهم أنها افتراضية. عالم بات على درجة خارقة من التعقيد والفوضى، يستلزم كما يقول جيجيك، أن يكرّس الفلاسفة جهودهم في تفسيره، وليس كما فعلوا مع عالم القرن الـ20 حين أمضوا أغلب الوقت في محاولات كارثيّة لتغييره. ولد الفيسلوف والسياسي والناقد سلافوي جيجك عام 1949 في لوبليانا" (سلوفينيا)، قبل تفكك يوغوسلافيا، ويوصف بأنه آخر باحث عظيم برز في أوروبا. وهو باحث في جامعات ليوبليانا ولندن ونيويورك. تناول في أفكاره مئات من الأكاديميين، حتى أنه في 2007 تم تأسيس "المجلة الدولية لدراسات جيجك" من أجل مناقشة أعماله. ومن مؤلفاته: "وجوه سامية من الآيديولوجيا"، "الصراع الطبقي الجديد"، "سنة الأحلام الخطيرة"، "الفلسفة في الحاضر"، "العنف: تأملات في وجوهه الستة"، "مرحباً في صحراء الواقع"، "الاستبداد ومستقبل العالم"، "لنبدأ التفكير الآن"، وغيرها من الدراسات والمقالات والحوارات والمناظرات وحتى الوثائقيات التي عرضتها عنه محطات تلفزة دولية كبرى. بتقديري أن جيجيك نصف ليبيرالي ونصف يساري، ينتقد الرأسمالية العالمية والليبيرالية الجديدة معاً، ويقدم رؤى جديدة لإحياء النظرية الماركسية ونقد وتحليل الفلسفات الفرنسية والألمانية. ومن كلماته التي علقت في ذاكرتي: "أنا متشائم لإحساسي بأننا نقترب من أوقات خطرة، ولكنني متفائل لنفس السبب أيضًا. التشاؤم يعني أن الأمور ستصبح أكثر فوضى، والتفاؤل يعني أن هذه هي بالضبط الأوقات التي يكون فيها التغيير ممكنًا". وقوله: "أحياناً عليك أن تبحث عن قناع، قناع يجعلك تبدو كما أنت". ويا له من فيلسوف وناقد سينمائي أيضاً. وما دمنا استدعينا السينما، فلنعد إلى ما أرسله إلى أحمد النجدي عن فيلم أحمد حلمي "ظرف طارق" حين طلب إليه مجدي كامل: "اعملي ساندويتش فول من غير سلطة طماطم"، ليرد عليه حلمي: "مفيش سلطة طماطم اعملهولك من غير سلطة طحينة". هنا، يبدو المشهد ساخراً وقول حلمي لا منطقيًا، إذ إن مجدي طلب ساندويتش الفول من دون سلطة طماطم أصًلا! لكن في الواقع، بالإمكان تفهّم هذا الموقف إلى حد ما بالاستعانة بفلسفة جيجيك ونظريته عن الاستهلاك والاستعراض والوهم بالعالم الافتراضي، مقابل رؤية نظيره الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر عن الحرية والعدم. لنتحدّث أوّلًا عن مسألة الحرّية مع سارتر، فسواء اختار مجدي كامل عدم وجود سلطة طماطم أم لم يختر ذلك، فهو مجبر على تناولها من دون سلطة طماطم، إذاً، الموقف هنا محدّد مسبقًا، ولَئن كان يعتقد أنه هو نفسه من اختار قرار عدم وجود سلطة طماطم، إلّا أن الظروف هي التي حددت ذلك مسبقًا، فلم يعد الأمر بيده، وليس في إمكانه اختيار العكس أي وجود سلطة طماطم لأنها غير موجودة بالفعل. أما حلمي، فأدرك ذلك الأمر من البداية، لكنه أراد إعطاء مجدي الفرصة ليكون لديه قراره الحرّ، الذي بإمكانه اختيار عكسه، أي عدم وجود سلطة الطحينة المتوفّرة أو وجودها. أما في ما يتعلّق بمعنى العدم في فلسفة سارتر، فإن عدم وجود سلطة طماطم، مختلف عن عدم وجود سلطة طحينة، وفي الحالتين يظلّ ساندويتش الفول نفسه، إلّا أن سياقه يختلف وكذلك معناه، استنادًا إلى التوقّعات، وهي جزءٌ أساسي من التجربة المعاشة. أما مع سلافوي جيجك، فنذهب إلى سياق الاستهلاك في ظلّ الرأسمالية، إذ إن عدم وجود شيء، هو شيء في حد ذاته، ففي حال ذهبت إلى أحد متاجر التسوّق، ستجد منتجات مكتوب عليها "خالٍ من السكر" و"خالٍ من الدسم" و"خالٍ من الكافيين" و"خالٍ من المواد الحافظة"، وستجد المنتج الخالي من السكّر أغلى من المنتج الذي يحتوي عليه، مع العلم أن المنتج الأول تنقصه مواد موجودة في المنتج الآخر! حينها، تصبح المكوّنات "غير الموجودة" سلعًا قابلة للتسويق بقدر ما هي مكوّنات فعلية! فـ"عدم وجود سكّر" ندفع ثمنه كمنتج في حد ذاته. نحن هنا ندفع ثمن الغياب والخلو. إنه يا عزيزي الوهم في "مجتمع الاستعراض والاستهلاك" حيث القوة الرهيبة للخيال والحلم اللذين ينتجهما "الافتراض" أكثر من الاستناد "الواقعي" على العملة والنقد والبضاعة المادية والقوة الشرائية وغيرها. وعلى حد قول جيجيك فإن "الرغبة في الاستهلاك تتخذ منحىً دائرياً تسلسلياً، حيث من الضروري أن نستهلك لغرض وحيد هو أن نستهلك وأن نظهر أننا نستهلك". هنا، يعيد جيجيك الاعتبار لفكرة كارل ماركس في كتابه: "رأس المال" عن "صنم السلعة المعبود"، والتي تبقى واحدة من أكثر مقومات النظرية الماركسية صلاحية، بالاستمرار والتأثير منذ 150 عاماً حتى اليوم، على رغم ما اعترى عالمنا من تحولات وتغيرات وتبدلات. في نقده للمجتمع الليبيرالي الجديد، يقترب جيجيك كثيراً من فلسفات نظيريه الفرنسي ميشال فوكو والألماني بيونغ شول هان وتحليلاتهما، إذ يراه مجتمعاً سلطوياً تحكمياً كمثيله النظام الشمولي، وإن كان بأدوات أكثر ذكاء ونعومة. كلا المجتمعين يخضعان الفرد ويسيطران عليه، الشمولي السلطوي بوسائط قمعية تحدد فيها السلطة خطوطاً حمراء، لا تسمح للفرد بتجاوزها وتعاقبه إذا فعل، تضبط توجهاته، وتقنن حركاته وسكناته وفقاً لهوى القائد الملهم وبواسطة قوى القمع كثيفة الحضور في المجال العام، فتضع بذلك نفسها في مواجهة مكشوفة مع معارضيها بغباء وتعسف. الأمر ذاته يقوم به النظام الليبيرالي الجديد، لكن من خلال وسائل وطرق أكثر ذكاء ومرونة وربما أكثر انفتاحاً وخفة وإباحية (Permissive) تجعل الناس يخضعون أنفسهم بأنفسهم لطقوس هيمنة، يعتبرونها أدوات للتعبير عن آرائهم وحرياتهم، حين يستهلكون ويتواصلون ويستعرضون عبر الفضاء السيبراني وحين يضغطون على زر Like. وفي تقديري، أن هذا النظام شديد الذكاء والمخاتلة، ذلك أنه احتكر السلطة في الواقع، وخلق للناس مجتمعاً موازياً في الفضاء الإلكتروني ليكون عالماً بديلاً لا يتمتع إلا بواقعية افتراضية. وها هو جيجيك لا ينخدع به، بل ينتقده ويعرّيه ويرفضه. * كاتب مصري.
مشاركة :