يقول الخطاب الليبرالي الأميركي، المتعلق بإدارة الرئيس دونالد ترامب، إنه شخص معتوه لا يدري ما يفعل. وهذا ما جعل الديمقراطيين يتخيلون أن الأشهر الـ27 الماضية كانت مجرد كابوس، ويمكن تغييره سريعاً حالما يتمكن الشخص المناسب من إبعاد ترامب عن البيت الأبيض. لكن بعض العاملين في مؤسسة السياسة الخارجية غير مقتنعين بهذا التخيل. وهناك اثنان من المتخصصين في شؤون الشرق الأوسط كتبا مقالاً في مجلة «بوليتيكو»، وهما آرون ديفيد ميلر وريتشارد سوكولسكي، حيث أوضح الرجلان أن بعض خصوم ترامب يفهمون تماماً أن سياساته تعتبر محاولات خطرة لتنفيذ تغيير حقيقي في السياسة الأميركية. وعمل ميلر موظفاً في وزارة الخارجية لمدة 24 عاماً، وأيد منذ زمن طويل ممارسة الضغوط على إسرائيل كي تقدم التنازلات للفلسطينيين. وكذلك سوكولسكي كان موظفاً أيضاً في وزارة الخارجية، ومثل ميلر، الذي يترأس الآن مركز ويلسون للأبحاث الأميركي، فقد تقاعد كي يعمل في منصب مريح بمؤسسة كارنيغي للأبحاث. ويحذر الرجلان من أن خليفة ترامب لن يكون قادراً على تغيير طريقة تعامله مع الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، وانسحابه من الاتفاقية النووية الإيرانية. وهما على صواب بشأن طبيعة هذه التغيرات. وعلى الرغم من حجم التغيرات التي أدخلها ترامب على المشهد في كلتا القضيتين، إلا أنه لن يكون بمقدور خصومه أن يعيدوا الوضع إلى ما كان عليه قبل تسلم ترامب السلطة من سلفه باراك أوباما. وهذا ما يجعل انتخابات عام 2020 واحدة من الانتخابات التي تنطوي على نتائج ضخمة في الشرق الأوسط. وبالطبع فإن معالجة ترامب للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي غير مسبوقة، ومنذ تاريخ تشكل إسرائيل لم تعترف الولايات المتحدة بسيادة إسرائيل على أي جزء من القدس، أو على المدينة كعاصمة لإسرائيل، حيث كان يعتبر ذلك ضرورياً للحفاظ على مكانة الولايات المتحدة باعتبارها وسيطاً نزيهاً لحل الصراع، إضافة إلى الضغط على الإسرائيليين ليكونوا أكثر تساهلاً في المفاوضات. نهاية الأمل كانت هذه الفرضيات ذاتها أساساً لسياسة الولايات المتحدة إزاء المفاوضات الإسرائيلية - الفلسطينية منذ اتفاق أوسلو عام 1992. وكانت الإدارات التي عمل بها ميلر وسوكولسكي قد ضغطت على إسرائيل كي تقدم تنازلات بهدف تسهيل مفاوضات السلام مع الفلسطينيين. ولكن ترامب قلب كل ذلك رأساً على عقب. ويعتقد ميلر وسوكولسكي أن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وتبني موقف عدائي إزاء السلطة الفلسطينية، قد وضعا نهاية لأي أمل بتقدم دبلوماسي. وأدت هذه التغيرات، إضافة إلى الاعتراف الأخير لإدارة ترامب بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان، إلى جعل الولايات المتحدة تقف في صف إسرائيل علناً، كما أنها كانت إشارة إلى الفلسطينيين بأن آمالهم بإنشاء دولتهم قد تلاشت. وربما يكون ميلر وسوكولسكي على حق في أن خطة السلام التي وضعها مستشار الرئيس وزوج ابنته، غاريد كوشنر، لن تنجح. لكن السياسات التي كانا يدعمانها في الماضي لم تفشل بصورة بائسة وحسب، وإنما قللت من احتمال التوصل إلى سلام. ولطالما افترض الفلسطينيون أنهم ليسوا بحاجة إلى تقديم التنازلات، لأنه عاجلا أو آجلاً سيتخلى الغرب عن إسرائيل. وتعزز هذا الوهم باعتقاد الرئيس أوباما أنه عن طريق إيجاد «وضوح» في العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل يمكن تحقيق السلام. لكن الفلسطينيين لم يستغلوا جهود ترامب لجعل كفة الدبلوماسية ترجح إلى جانبهم، إضافة إلى العدائية الصريحة بين ترامب ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو. واستمرت السلطة الفلسطينية في الاعتقاد أن المجتمع الدولي سيجبر إسرائيل في نهاية المطاف على الامتثال لإرادته، كما أنها كانت تخشى أن تبدو ضعيفة مقارنة مع حركة «حماس» في غزة. عزلة وعلى الرغم من توقعات الخبراء، فإن خطوة ترامب نحو القدس، إضافة إلى أسلوبه الأكثر واقعية نحو مفاوضات السلام، لم يقوّضا نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة، بل على العكس فإن عدداً من الدول العربية حث السلطة الفلسطينية على التفاوض بدلاً من رفض خطة كوشنر، وان كانت السلطة الفلسطينية قد رفضت هذه النصيحة. وعن طريق تقوية العلاقات الأميركية - الإسرائيلية، أظهر ترامب للفلسطينيين أنهم سيخسرون الكثير جراء عنادهم، وإذا رفضوا عرضه فانهم سيجدون أنفسهم أكثر عزلة. ويعتبر استعداد ترامب لتقويض الاتفاقية النووية الإيرانية مع إدارة أوباما، مثالاً آخر على قيامه باستبدال التحليل العقلاني بتفكير التمني في الشرق الأوسط. ويصف ميلر وسوكولسكي قائمة وزير الخارجية، مايك بومبيو، في ما يتعلق بالأهداف الإيرانية بأنها «متطرفة» و«غير ضرورية واستفزازية»، لكنّ وضْع حد لدعم إيران للإرهاب، وسعيها للسيطرة على المنطقة، وإنتاجها للصواريخ بصورة غير شرعية، كان هدفاً حاول أوباما تحقيقه، قبل أن يتخلى عن سياسة العقوبات القاسية لمصلحة التهدئة. وإضافة إلى ذلك تركت الاتفاقية الإيرانية لطهران بنيتها النووية التحتية كما هي، وبعد فترة زمنية ينتهي خلالها مفعول الاتفاقية، ما يسمح لإيران بصنع القنبلة النووية في النهاية. وبخلاف ما يقوله ميلر وسوكولسكي، فإن هدف الدبلوماسية الأميركية مع إيران يجب ألا يكون أبداً تحقيق مزيد من العلاقات الودية مع الجمهورية الإسلامية. وإنما يجب أن يكون الهدف تغير إيران سلوكياتها، وعن طريق فرض العقوبات ومحاولة منع تصدير النفط الإيراني، فإن ترامب لا يدفع المنطقة نحو الصراع العسكري. وإنما على العكس قد يكون عاد بنا إلى نقطة عام 2013، عندما تخلى أوباما عن التأثير الاقتصادي الغربي، مقابل وقف مؤقت لمسعى إيران للحصول على القنبلة النووية. لكن عن طريق تعزيز قوة إيران وجعلها أكثر ثراء فإن أوباما يجعلها أكثر خطورة. وسياسات ترامب تظهر تباشير النجاح عن طريق إضعاف إيران. وإذا كانت إيران والفلسطينيون ينتظرون على أمل أن العقبات التي يواجهونها الآن يمكن أن تتغير، فإن ذلك يرجع إلى ما قاله سياسيون غربيون، بمن فيهم وزير الخارجية الأميركي السابق، جون كيري، إنه يتعين عليهم الانتظار حتى عام 2021 عندما سيخلف ترامب رئيس ديمقراطي يعيد طرح سياسات أوباما. وهذا ممكن، كما يقول ميلر وسوكولسكي، على الرغم من أنه لن يكون سهلاً ابداً. وعلى الرغم من الاحتقار الذي يكنه ميلر وسوكولسكي للرئيس ترامب، إلا أنهما يفهمان أن إجراءات مثل نقل السفارة الأميركية إلى القدس وفرض عقوبات على إيران، تحظى بالشعبية، وأي رئيس ديمقراطي يريد تغيير هذه الخطوات التي اتخذها ترامب سيواجه المعارضة. ويمكن للفلسطينيين والإيرانيين أن ينتظروا ويعملوا على التعايش مع الواقع حتى انتخابات عام 2020، ولكن إذا جرت إعادة انتخاب ترامب يجب عليهم مواجهة الواقع وتكييف سياساتهم معه إذا كانوا يريدون دولة (في حالة الفلسطينيين) أو إنهاء عزلتهم (في حالة إيران). وفي كلتا الحالتين فإن احتقار ترامب لكلا الخبيرين مبرر في نهاية المطاف، كما أن تغيير سياساته عززت من موقف أميركا في الشرق الأوسط، لكن استمرارية هذه التغيرات تبقى في أيدي الناخبين. • خطوة ترامب نحو القدس، إضافة إلى أسلوبه الأكثر واقعية نحو مفاوضات السلام، لم يقوّضا نفوذ واشنطن في المنطقة، بل بالعكس، فقد حثت الدول العربية «السلطة الفلسطينية» على التفاوض. جوناثان توبين - كاتب في «ناشيونال ريفيو»طباعةفيسبوكتويترلينكدينPin Interestجوجل +Whats App
مشاركة :