«عصر التنوير» لكاربانتييه: الثورة ضحيّة للثوار أنفسهم

  • 3/18/2015
  • 00:00
  • 17
  • 0
  • 0
news-picture

كان اليخو كاربانتييه واحداً من أكبر كتاب أميركا اللاتينية خلال النصف الثاني من القرن العشرين. كان هناك في الصف الأول الى جانب استورياس وآمادو وماركيز وبورخيس. وكانت واقعيته السحرية تشبه واقعية هؤلاء السحرية، غير انه اختلف عنهم في اهتمامه الخاص بالتاريخ، وخصوصاً تاريخ المنطقة الكاريبية، التي ينتمي اليها وطنه كوبا. كان كاربانتييه مهووساً بمنطقة بحر الكاراييب، لكنه كان مفتوناً في الوقت نفسه بمبادئ التحرر - ولا سيما تحرر العبيد -، وبعصر التنوير الفرنسي الذي كان الخلفية الفكرية للثورة الفرنسية. وهو لئن كان في العدد الاكبر من اعماله الروائية قد عالج هذه الامور متفرقة، فإنه في رواية واحدة له على الأقل، تعتبر عادة من أفضل ما كتب، عالج المسائل الثلاث معاً، فاجتمع في الرواية عصر التنوير والثورة الفرنسية، من ناحية، وتاريخ منطقة بحر الكاراييب من ناحية ثانية، وأخيراً ًمسألة العبودية وحصول العبيد على حريتهم من ناحية ثالثة. اسم الرواية بالتحديد هو «عصر التنوير» وصدرت للمرة الأولى في عام 1962، اي بعد سنوات قليلة من انتصار الثورة الكوبية ووصول كاسترو الى الحكم. وكان اليخو كاربانتييه من انصار كاسترو ومن مؤيدي الثورة منذ بداياتها. ما يعني ان الرواية كان يتعين عليها ان تكون رواية تمجد الثورة الفرنسية وثوارها، وتعمل في الوقت نفسه على المماهاة بين هذا الفجر الجديد المطل على كوبا، وبين ذلك الفجر الجديد الذي كان أطل على العالم كله قبل أقل من قرنين مع اندلاع الثورة الفرنسية وانتصارها، حيث أن مبدعين ومفكرين من طينة كاربانتييه ما كان في إمكانهم إلا أن يؤمنوا بأن الثورة الكوبية مثل غيرها من الثورات التحررية التي قامت على الفكر والمصالح الطبقية معاً، إنما هي الإمتداد الطبيعي والتاريخي للثورة الفرنسية، أكثر مما هي امتداد لأي حراك تاريخي آخر. > لكن «عصر التنوير» لم تكن كذلك. بل يمكن القول انها، في المحصلة النهائية لموضوعها، كانت عملاً اقرب الى التشاؤم، وأقرب الى السخرية من الثوار. بل ان هذا الجانب الأخير فيها هو الطاغي طالما ان اليخو كاربانتييه جعل من بطل الرواية الرئيسي، مندوب الثورة الفرنسية الى المنطقة الممتدة من غواديلوبي الى غويان (وكانت المنطقة من الممتلكات الفرنسية)، شخصاً سلبياً، سينتهي به الأمر في الرواية الى ان يكون طاغية مروّجاً للعبودية و... خائناً لأفكار الثورة الاساسية. > هذا «البطل» في الرواية اسمه فكتور هوغ، وهو لا علاقة له طبعاً بالكاتب الفرنسي الكبير فكتور هوغو، لكنه كان شخصاً تاريخياً حقيقياً عرفه تاريخ منطقة الكاراييب. بيد أن مسار حياته وما قام به هناك كان من الغموض الى درجة مكنت كاربانتييه من ان يعيد تشكيل شخصيته على هواه. ولقد قال كاربانتييه دائماً ان هوغ في روايته يختلف كثيراً عن هوغ الحقيقي... من دون ان يفسر مجالات الاختلاف، طبعاً. المهم اننا هنا امام رواية تستعير شخصياتها وأحداثها من التاريخ، لا امام تاريخ رسمي. والمهم ليس معرفة حقيقة ما حدث، انما دلالة ما يفترض الكاتب حدوثه ويرويه لنا على شكل امثولة. > وما يحدث في الرواية هو ان عصر التنوير اذ يبزغ في فرنسا، كان لا بد لأصدائه الثورية ان تصل الى جزر الانتيل ومنطقة الكاراييب: كان لا بد من ان تصل افكار فولتير وروسو وكذلك الافكار الماسونية... وكل تلك الافكار راحت تنتشر في اوساط المثقفين. ولكن هل كان يمكن لتلك الافكار ان تصل من دون أن تصل معها المقصلة، والصراعات على السلطة وتراجعات الثوار وحقيقة الثورة التي تأكل ابناءها؟ إن لمن الامور ذات الدلالة القوية هنا ان يموضع اليخو كاربانتييه احداث روايته بين يوم 16 «بلوفيوز» العام الثاني للثورة، ويوم 20 «فلوريال» (في العام العاشر لها)، اي بين شباط (فبراير) 1794 و10 أيار (مايو) 1802. وهما تاريخا صدور قرار الغاء العبودية بالنسبة الى الأول، وقرار اعادة العبودية بالنسبة الى الثاني. وهكذا يضعنا كاربانتييه في قلب الصدمة التي احدثتها اخبار الثورة في تلك المناطق النائية من العالم، فكانت مرة صدمة ايجابية، وفي المرة الثانية صدمة سلبية. > لقد بنى كاربانتييه روايته على شكل سياق موسيقي هندسي (والرجل كان في الوقت نفسه عالم موسيقى)... مؤمناً بأن هذا السياق قادر على اعطاء عمله قوة تعبيرية وشعورية رفيعة. اما حديثه عن ذلك كله فأتى من طريق متابعته لمغامرات وأفعال بطل روايته فكتور هوغ الذي كان هو - في أول الرواية - من يحمل الى المنطقة مرسوم إلغاء الرق... جنباً الى جنب مع أول مقصلة تعرفها تلك المنطقة. وهوغ كما يرسمه لنا قلم كاربانتييه كان في الأصل تاجراً وديعاً من هايتي يؤمن بالأفكار التغييرية ويناصر روبسبيير... ثم يتحول بالتدريج الى قائد ثوري عسكري ينتزع غواديلوبي من أيدي الانكليز ملحقاً بهم اهانة ما بعدها إهانة. وكأن هذا لا يكفيه إذ سرعان ما نجده ينظم القرصنة في البحر ضد السفن الانكليزية وحدها، قبل ان يبدأ بمعاقبة اعداء الثورة بأبشع ما يكون. ولأن هوغ مرتبط تماماً بما يحدث في فرنسا، مطلع على التفاصيل... ها نحن نراه يتبدل ويتغير تبعاً لتبدلات الثورة وتغيراتها، حتى يصل به الأمر في النهاية الى اعادة العمل باستعباد الزنوج، وحين يثور هؤلاء عليه مذكّرينه بالقرارات الثورية القديمة، لا يتورع عن قتلهم بالعشرات... كما يقتل من دون رحمة كل عبد زنجي تسول له نفسه الهرب من مصيره القديم - الجديد. > وفي مقابل هوغ لدينا في الرواية ثائران حقيقيان كوبيان هما الثنائي صوفيا واستيفان اللذان منذ البداية تثير افكار هوغ حماستهما فيقفان الى جانبه والى جانب الثورة. بل ان استيفان يتوجه الى باريس حيث تكلفه الادارة الثورية بالتوجه الى اسبانيا لنشر افكارها هناك... وفي خضم ذلك يكون استيفان وصوفيا قد «اكتشفا» خيانة هوغ للمبادئ الثورية، ولا سيما حين يصبح عميلاً للسلطة القنصلية الفرنسية، لا زعيماً ثورياً حقيقياً. والحال ان من الأمور شديدة الرمزية في هذه الرواية ان استيفان وصوفيا سوف يموتان في مدريد، قتلا برصاص يطلقه عليهما جنود نابوليون هناك. وواضح هنا ان هذا القتل انما هو ورقة نعي الثورة الفرنسية كما صاغها قلم اليخو كاربانتييه. ومع هذا فإن الكاتب، اذ يعلن هذا الموقف من خيانة الثوار لثورتهم، يظل - كما يبدو - على ايمانه بالثورة نفسها. ويتجلى هذا في موقفه من استيفان وصوفيا. فهما بالنسبة إليه لا فكتور هوغ، حاملا الأفكار الثورية حتى النهاية. ومن هنا يكون من المهم ان نتنبه دائماً الى الحوارات بين استيفان وصوفيا... وهي حوارات تدور دائماً من حول ضرورة عمل شيء ما ضد الخيانات. ولئن جاء هذا الأمر غامضاً هنا بعض الشيء فإن علينا ان نبحث في اعمال اخرى لكاربانتييه عن تطلعات ثورية دائماً، ولا سيما في رواية «ملكوت هذا العالم» حيث تقول لنا الرواية في النهاية «ان عظمة الإنسان تكمن، تحديداً، في رغبة تحسين أوضاع العالم، وفي فرضه مهمات انسانية على نفسه». وهذا الموقف هو الذي يجعل الأمل الذي يحمله نضال استيفان وصوفيا كبيراً، على رغم موتهما. > وأليخو كاربانتييه (1904-1980) ولد في كوبا من أم فرنسية الأصل وبدأ حياته العملية في الصحافة والعمل السياسي. وهو سُجن في شبابه الباكر لأنه وقّع على بيان ضد ديكتاتورية ماتشادو، ثم توجه الى فرنسا حيث أقام 10 سنوات خالط خلالها الأوساط الثقافية قبل ان يعود الى هافانا حيث نظم العديد من النشاطات الثقافية. وبعد جولة أخرى دامت سنوات في بلدان أميركا اللاتينية عاد نهائياً الى وطنه في العام 1959 مع انتصار ثورة كاسترو. وانصرف الى العمل الكتابي، كما الى العمل الديبلوماسي. وهو نال في العام 1977 جائزة ثربانتس. ومن بين أبرز اعماله، اضافة الى ما ذكرنا: «اقتسام المياه» و «الكونشرتو الباروكي».

مشاركة :