اختلاف الأفهام باختلاف الأزمان

  • 10/10/2013
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

مما يلفت النظرَ أن يورد الإمام ابن تيمية، مؤيِّدا، قولَ «الفقيه الحنبلي» ابن المنادى (ت 336 هـ)، ما يقوله «العلماء» عن أن الأرض كرة معلقة في الفضاء، لا «منبسطة» كما يقول التفسير البديهي. وهي صورة الكون التي جاءت، كما بينت في المقال السابق، من تصور عالم الفلك اليوناني القديم، بطليموس، في كتابه «المجسطي». ومن الواضح أن قبول ابن المنادى للمعرفة «العلمية» السائدة في عصره شهادةٌ على أن «الفقهاء» في الفترة التي شهدت ازدهار العلوم كلها في الحضارة العربية الإسلامية الناهضة لم يكونوا يتحرجون من الانفتاح على العلوم «غير الدينية»، كالعلوم الطبيعية والفلكية والطبية. وسبب ذلك أن فترات النهوض الحضاري تشهد دائماً انفتاح العلوم بعضها على بعض، واستفادة بعضها من بعض. وهذا ما جعل ابن المنادى يورد تفسيراً علمياً سائداً بين علماء الفلك في وقته يخالف ما تقوله بعض التفاسير القديمة أو المعاصرة له لبعض الآيات الكريمة. والمفارقة أن ابن تيمية يورد أقوال ابن المنادى مع أنه لم يكن يقبل، هو نفسه، ما كان يقوله معاصروه من الفلكيين المسلمين عن علم الفلك. ويمكن تفسير هذه المفارقة بأن ابن تيمية عاش في عصر أطلق عليه المستشرق «توبي أ. هفَّ» فترة «انهيار العلم العربي» (فجر العلم الحديث: الإسلام ـــ الصين ــ الغرب. ترجمة محمد عصفور. ط2، الكويت: عالم المعرفة، العدد 260، ص ص 227ــــ 261). ومما له دلالة واضحة أن المعرفة «العلمية» التي أوردها ابن تيمية عن ابن المنادى لم تعد معرفة «صحيحة» في نظر علماء الفلك المعاصرين له -بعد ابن المنادى بأكثر من ثلاثة قرون. إذ يورد «هف» (ص 71) أن اعتراضات العلماء العرب على تصور بطليموس بدأت منذ القرن الرابع الهجري حين صرح ابن الهيثم (ت1040م) بأن «الترتيبات المقترحة لحركات الأجرام السماوية في كتاب المجسطي كانت فاسدة، وأن الترتيبات الصحيحة لم تكتشف بعد». ويقول: فـ «قد استطاع الفلكيون والرياضيون العرب العاملون في مرصد مراغة غربي إيران، ولا سيما المؤقِّت الدمشقي ابن الشاطر(ت 1375م)، أن يحسِّنوا النظام البطلمي بحيث غدا معادِلا، رياضيا، لنظام كوبيرنكس (مع أن النظام ظل يقوم على مركزية الأرض). أو قد نقول بشكل أدق إن النماذج الفلكية التي أعدها كوبيرنكس، وهي النماذج التي ظهرت بعد زمن ابن الشاطر بمائة وخمسين سنة، هي في الواقع نسخ كربونية عن النماذج التي أعدها فلكيو مراغة» (ص ص 67 68). ويضيف: «فقد وجه مؤرخو العلم العربي جهودهم لاكتشاف أصالة هذا العلم. ويتضح هذا أكثر ما يتضح في تاريخ الفلك. حيث بيَّن الباحثون بشكل يثير الإعجاب الخطوات المختلفة التي اتُّخذت في الفكر الفلكي وأدت في القرنين الثالث عشر والرابع عشر (الميلاديين) إلى تطور تصور لنظام الأجرام السماوية كان معادلاً من الناحية الرياضية لنظام كوبيرنكس. ويعني ذلك (1) أن كوبيرنكس استعمل مزدوجة الطوسي كما استعملها فلكيو مراغة، (2) أن نماذجه الفلكية لخطوط الطول في كتابه «الشرح المختصر» Commentariolus مستمدَّة من نماذج ابن الشاطر، (3) أما نماذجه الخاصة بالكواكب العليا والموجودة في كتاب «في دوران الأجرام السماوية» فتستخدم نماذج مراغة، (4) أن النماذج القمرية عند كل من كوبيرنكس ومدرسة مراغة متطابقة. وهذا التطابق الأساسي للنماذج هو ما دعا نويل سويردلو لأن يسأل لا «عما إذا» كان كوبيرنكس قد تعلم نظرية مراغة بل «متى وكيف» (ص 70). ويتساءل «هف» عن أسباب توقف العلم العربي الذي كان قد وصل إلى تلك المستويات من التقدم والنضج فيقول إن هذا الوضع يثير «حيرة عميقة، وقد تضاربت حوله الآراء طوال المائة والخمسين سنة الماضية. وتتراوح العوامل التي قيل إنها مسؤولة عن إخفاق العلم العربي في إنجاب العلم الحديث ما بين العوامل العرقية، وسيطرة الاتجاه الديني التقليدي، والطغيان السياسي، وأمور تتعلق بالوضع النفسي العام، وبين عوامل اقتصادية، وإخفاق الفلاسفة الطبيعيين العرب في تطوير المنهج التجريبي واستعماله. وترى إحدى الصيغ المألوفة للتأثير السلبي الذي مارسته القوى الدينية في التقدم العلمي أن القرنين الثاني عشر والثالث عشر شهدا نشوء الصوفية باعتبارها حركة اجتماعية. وهذا أدى بدوره إلى التعصب الديني تجاه العلوم الطبيعية بشكل خاص، وإلى حلول العلوم الغيبية محل دراسة العلوم اليونانية والعقلية» (ص 70). ثم يورد تفصيلات موسعة لهذه العوامل الداخلية التي فاقمت من أثرها بعض العوامل الخارجية، كالغزو المغولي، وغيره. ويشير إلى أن فترة الانحدار تلك هي التي منعت علماء الفلك المسلمين من القفز إلى أهم إنجاز في تصور الكون، وهو القول بمركزية الشمس. ذلك مع أن العرب «قد وصلوا إلى حافة أعظم ثورة فكرية حدثت في التاريخ، ولكنهم رفضوا الانتقال «من العالم المغلق إلى العالم اللانهائي» (ص 74). فمن الواضح إذن أن أسبابا كثيرة هي التي منعتهم من تلك «الثورة الفكرية»، وربما كان أولها معارضة بعض ممثلي «الثقافة الدينية». وربما نبعت تلك المعارضة من الخوف غير المسوغ على ما يظنونه الصورة الصحيحة للإسلام في ظل الظروف الصعبة التي كان يمر بها العالم الإسلامي، وربما تصوروا أن ذلك كان دفاعاً عن الإسلام ضد الخرافات التي نشأت عن التراجع العلمي نفسه، كشيوع التنجيم والتوجهات التي تغيب العقل في مقابل ما تسميه الروح. ومع أن فترة ابن تيمية شهدت تطوراً كبيراً في علم الفلك إلا أنها شهدت كذلك تراجعاً حضارياً واضحاً تمثل في جمود العلوم كلها وغلبة التقليد حتى في العلوم الدينية، كما شهدت تراجعاً سياسياً واضحاً بسبب الغزو الخارجي والتفكك الداخلي. ومن المؤكد أنه لا يمكن أن تتطور أية حضارة في جانب، مهما كانت الإنجازات فيه، فيما هي تتخلف في الجوانب الأخرى. لذلك فإن رواية ابن تيمية لأقوال ابن المنادى، إبان انحدار الحضارة العربية الإسلامية وانحسار إنجازاتها العلمية، لا تعدو أن تكون جزءاً من التقليد للقدماء، لا دليلا على «معرفته» العلمية بتلك الإنجازات العلمية. إذ لو كان مهتماً بتلك المعارف العلمية حقا للفت نظره ما كان يُنجزه معاصروه في علم الفلك، ولكان من الممكن أن تكون مواقفه أقل تصلباً في معاداة ذلك العلم والمشتغلين به. ومحصلة القول أن مواقف الإمام ابن تيمية من علم الفلك لا تلزمنا لأنها لا تقوم على معرفة حقيقية بعلم الفلك، لا في عصور الازدهار العلمي العربي قبله، ولا في عصره هو. ولابد من القول، ختاما، إن المعارف الفلكية القديمة كلها، العربي منها وغير العربي، لا تلزمنا بعد الثورة العلمية الفلكية التي فجرها كوبرنيكس قبل خمسة قرون تقريباً.

مشاركة :