عمق التعبير وجمال التصوير /2: «فجعلناه هباءً منثورًا»

  • 5/8/2019
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

«وقدِمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثورًا» الفرقان 23. إن استطعتم أيها الكافرون أن تقبضوا على الهباء المنثور في كل الأرجاء وجميع الأنحاء، فافعلوا ولن يفعلوا، ولن يبادروا بالفعل ابتداءً، لتملك اليأس في نفوسكم، تلك هي الصورة الفنية التي تتشكل في الذهن لأعمال الكافرين، متطايرة لا ينتفعون بها وتذهب أنفسهم عليها حسرات، وكفى بالحسرات ألمًا. كلمات مجردة غاية التجريد التقطت صورة واضحة غاية الوضوح، صورة العجز المُطبق أمام الضياع والخُسران المُبين، بعد أن ظنوا أنهم يحسنون صُنعًا، فلا نُقيم لهم يوم القيامة وزنًا، وكأن الصورة تهمس بجميع الآذان بأن يُحسنوا التوحيد لله بالإخلاص له سبحانه وتعالى، حتى لا تتطاير أعمالهم وتتبعثر جهودهم كأنهم لم يفعلوا شيئًا، وهناك هو الخُسران الذي لا يعقبه خُسران، وهذا الضياع صوّره الله في سورة الغاشية الآية الثالثة قائلاً وقوله الحق «عاملةٌ ناصبةٌ» ومما يروى عن الفاروق أنه كان يبكي إشفاقًا عليهم، حيث العمل المتواصل والتفاني ولكنه لا يقوم على أساس التوحيد. وقريبًا من هذا المعنى ترسم لنا ريشة الكلمات صورة جلية، وكأنها شاخصة أمام أعيننا تشخيصًا ماديًا من خلال قوله تعالى «مثل الذين كفروا بربهم، أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، لا يقدرون مما كسبوا على شيء» إبراهيم الآية 18, في هذه الآية المفعمة بالحركة وسرعة التطاير وهي صورة تخلب الألباب من سحرها الفني، حيث الرماد الخفيف الذي لا يثبت ولا يسكن في الأجواء العادية، فكيف الحال بالرماد في العواصف التي تنحي لها الأشجار وتتكسر منها الأجسام الثِقال، فالصورة المُختزنة في الخيال لهذا المشهد تعجز عنه كلمات كاتب عاجز مثلي، وترتجف لها القلوب هلعًا على التفريط في جنب الله، وتتيه النفس فرقًا من استحضار المآل الذي ستؤول إليه جراء الكفر بالله، وتيئيس من الظن بأن عملاً هنا وآخر هناك، أو صدقةً لفقير، أو تبرعًا لجمعية خيرية قد يُنجي من عذاب الله يوم الحشر فكل تلك الأعمال مثلها كمثل الرماد في عاصفة هوجاء لا تُبقي ولا تذر، إن لم تكن مسبوقة بتوحيد الله وإفراده بالعبودية. والقرآن ماضٍ في التقاط الصور الفنية الجملية في هذا المعنى رحمةً منه بعباده حتى يتعظوا، ويُشيدوا بناءهم على قاعدة متينة حتى يفوزوا وهو يريد لهم الفوز، والكلمات القرآنية في المثال التالي تُحذر وتُنذر كما في قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تُبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي يُنفق ماله رياء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فمثله كمثل صفوان عليه تراب، فأصابه وابل فتركه صلْدا» البقرة 274, يا لقتامة الصورة وأشد وطأتها على النفس، حين يُكتشف أنّ الصفوان «الحجر» قد أمحل بعدما ظُنت به الخصوبة والخير، فإذا به قاحل أشد قحالة وفقرًا من الصحراء الجرداء، التي قد ينبُت فيها شجرة هنا وشُجيرة هناك، عدسة الكاميرا القرآنية تركزت على الصفوان الأملس، لعمري كأن الصفوان بصورته هذه مقبرة للأعمال التي يُرائي فيها الإنسان الناس ، ولا يبتغي فيها وجه الله تعالى. من الملاحظ أن التقرير القرآني المُصور في الأمثلة الثلاث السابقة كلها أُنتزعت من البيئة التي يعيش فيها الإنسان لتكون أقرب إلى الأفهام وأكثر وقعًا على الأنفس، فجالت الكاميرا القرآنية بين الهباء المنثور وهو مُشاهَد ومُعايَن لكل من قرأ هذه الآية وسيقرؤها إلى يوم الحشر، والرماد وتطايره مع هبة النسيم فما بالك مع العواصف والأعاصير، والحجارة التي هي مكون أساسي من مكونان البيئة التي يولد فيها الإنسان ويعيش فيها ويموت فيها، والعين الفاحصة ينبغي لها أن تخترق الصورة المُشخصة من الحروف والكلمات إلى المعاني المخبوءة فيها ألا وهي الرحمة الإلهية والمحبة الربانية ببني الإنسان بأن لا تحيدوا عن هذه الخارطة المُجسدة وترونها رأي العين، ولكن الأمر مرهون بالادكار والاتعاظ والصدوع للحق.

مشاركة :