لقد أبلى الرواد في المعمار المحلي بلاءً حسناً في التشييد والبناء ومقاومة عوامل التعرية والصعاب والصبر والجلد، حيث رسم كبار السن في تراثنا المعماري السعودي بهندسية جميلة تنم عن جمال أرواحهم وحبهم للبناء والتشييد في أوطانهم بروح الإبداع والإصرار وتحمل الظروف البيئية رسموا لنا صورة متكاملة عن العمارة التقليدية، بكل ما تحويه من عناصر جميلة وزخارف شعبية رصدت ثقافة ذلك الجيل وإنجازاته وعكست ظروف البيئة المحلية (مناخية، جغرافية، اجتماعية)، وكذلك ما تحتويه من حلول تصميمية منسجمة مع احتياج الفرد والمجتمع من حيث العادات والتقاليد الضاربة في أعماق هذا الوطن. وقد استطاعوا في ذلك العهد أن يبنوا بيوتهم من الطين واللبن والأخشاب من أشجار الأثل ومن سعف النخيل. ويعتبر العمران هو ذاكرة الوطن الفنية يجسد ثقافة العيش والنمط المعماري هو ثقافة تلك المناطق والمدن والقرى على اتساع هذا الوطن السعودي الكريم وهي تنم عن ثقافة هندسية تلقائية وعفوية ناتجة عن روح البناء المعماري المحلي القديم رسم حركة الهواء ودخول الشمس والتهوية بروح هندسية نابعة من البيئة وظروفها واحتياجاتها. وكوني أحد أبناء منطقة حائل كنت أتحدث مع كبار السن وكانوا يروون لنا قصة الكفاح والبناء تنم عن حب أرض وعشق مكان وحب وطن وكانوا يعملون بأيديهم لكي يبنوا بيوتهم وكانت المواد المستخدمة في تلك المرحلة مواد طينية تعالج بطريقة تخمير الخلطة الطينية بصب الماء لمدة ثلاثة أيام والماء يصب عليها بشكل يومي حتى تتماسك في اليوم الثالث وتصبح قوية بعد البناء تخلطها أعواد التبن؛ ما يساعد على تماسكها أكثر في خلطات الطين ليكون أشد تماسكاً، بهذه الطرق المبتكرة أخرجوا لنا مباني قاومت عوامل السنين ولا تزال قائمة وشاهدة على إنجاز عصرهم الذهبي في المعمار المحلي التقليدي، وكانت منطقة حائل كغيرها من مناطق المملكة زاخرة بعديد من البيوت الطينية في كل حارات منطقة حائل القديمة والعريقة، والمبنى الطيني القديم في حائل إلى جانب تلبيته لكل الاحتياجات للسكان كان المعمار المحلي يهتم بجماليات المبني إذ كان يرسم إنسان هذه البيئة بروحه الجميلة فنيات الزخرفة بالجص الأبيض على واجهات مجالس الرجال أو ما تسمى في ذلك العهد (بالقهوة) يرسمون زخارف محلية غاية في الجمال والهندسية نابعة من تلقائيتهم تشكل وحدات متماثلة ومرسومة بدقة عالية تجسد لوحات جمالية بيضاء فوق الطين ويعملون ما يسمى شعبياً (الكمار)؛ وهو الذي يحمل الدلال العربية والأباريق بشكل جمالي ويحمل أدوات القهوة المعروفة توضع بترتيب جمالي ينم عن الاحتفاء بالقهوة ومعداتها المعروفة من المحماسة والمبرادة، والدلال بمختلف أشكالها وأحجامها لتشكل داخل الرفوف المزخرفة بالجص الأبيض جمالًا آخر، وكانت هذه الجماليات يخصصها المعمار المحلي لمجالس الرجال لاستقبال ضيوفهم، ويجلس صاحب البيت بحائل في مجلس الرجال أو القهوة خلف الوجار وهو المكان المعد لشبة النار وإعداد القهوة أمام الضيوف ويحمس القهوة أمامهم وإعدادها بطقوس كبار السن بالوجار أمام الكمار وهو يرحب بهم ويتبادلون الرواية الشعبية وقصائد الشعر وهذه الاجتماعات تكون في اليوم الواحد على فترات متعددة بعضها من بعد صلاة الفجر والأخرى بعد صلاة الظهر والأخرى بعد المغرب. ويكون مدخل مجلس الرجال في المعمار المحلي أعلى منطقة في البيت الطيني القديم ليعرف الضيوف أن هذا المرتفع هو مدخل الرجال، حيث يرفعون سقف المجلس أو (القهوة) لأمتار طويلة إلى الأعلى وهي من الميز النسبية للعمارة التقليدية لمنطقة حائل. ومن هذا المنطلق، فإن التراث العمراني القائم حالياً في المملكة يعد أحد الرموز الأساسية للنمط العمراني التقليدي للعمارة المحلية لتطور الإنسان، ويعبر عن القدرات التي وصل إليها الإنسان في التغلب على بيئته المحيطة والاستفادة من خاماتها الطبيعية وتسخيرها لخدمته في المسكن والحياة. والتراث يعني توريث حضارات السلف للخلف ولا يقتصر ذلك على اللغة أو الأدب والفكر فقط، بل يعم جميع العناصر المادية والوجدانية للمجتمع من فكر وفلسفة ودين وعلم وفن وعمران وصناعات تقليدية. ويعتبر العمران هو ذاكرة الوطن الفنية يجسد ثقافة العيش والنمط المعماري هو ثقافة تلك الأماكن واحتياجاتهم وهي تنم عن ثقافة هندسية تلقائية وعفوية ناتجة عن روح البناء المعماري المحلي القديم. ولعل الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني التراث العمراني انطلاقاً من تنظيم الهيئة الذي ينص على تولي الهيئة مهمة المحافظة على التراث العمراني وتنميته بما في ذلك من مدن وأحياء وحرف وصناعات تقليدية ومعالم تاريخية والعمل على توظيفها ثقافياً واقتصادياً. ولأهمية التراث العمراني وتنوعه في المملكة تمت إقامة «المركز الوطني للتراث العمراني»، حيث تتمثل أبرز مهام المركز في المحافظة على التراث العمراني وتنميته بما يضمه من مدن وأحياء وقرى ومبانٍ وحرف وصناعات تقليدية ومعالم تاريخية والعمل على توظيفها ثقافياً واقتصادياً، إضافة إلى إضفاء الطابع المؤسسي وتوحيد الجهود الإدارية والتنظيمية لتمكين الهيئة من تنفيذ مهامها والمسؤوليات المترتبة عليها في المحافظة على التراث العمراني الوطني بالتعاون مع الجهات المختلفة من القطاعين العام والخاص والمجتمعات المحلية. أرى أن ينطلق المركز من دور حماية الموروث العمراني القائم والآيل للسقوط الذي يحكي تراث وآثار وتاريخ وذاكرة الوطن حتى يبقى ماثلًا للسياحة إلى مسح المواقع وتقييم وتحديد أولويات الحماية والتنمية وتحديد الملكيات وحمايتها من التعديات ودعم الأبحاث العلمية والتطبيقية في مجال التراث العمراني ومتابعة برنامج عمل التراث العمراني والإشراف عليه إلى جانب بحث سبل الرفع من كفاءة أداء البناء بالمواد الطبيعية، وتسهيل وتحفيز واستقطاب الاستثمار ومصادر التمويل، والتدريب على طرق وأساليب البناء التقليدية وإدخال أساليب جديدة. وتمويل الفنادق التراثية في البيوت الطينية القديمة التى تقع على مواقع استثمارية يتم دعم المستثمر الذي يقوم بالحفاظ على هذا الموروث المعماري وتحويله إلى نزل تراثي وأرى أهمية المبادرة لإيجاد مسار سريع لإنجاز مشاريع حماية وتوثيق وترميم وإعادة تأهيل التراث العمراني، بالتركيز على إنجاز عدد من المشاريع الرائدة التي ترشحها مجالس التنمية السياحية في المناطق، وتنطبق عليها معايير الاختيار للمبادرة ويتم البدء بعمل الحماية لها مثل قصر حاتم الطائي بقرية توارن بحائل والذي يتعرض الآن لعوامل التعرية دون أي ترميم أو حماية وهو رمز تاريخي مهم لكريم العرب حاتم الطائي. علينا أن ندافع عن التراث العمراني من قلاع أو أسوار أو قصور أو مبانٍ طينية قديمة تحمل الطراز المعماري المحلي في حاراتنا القديمة للإفادة من مضمونه ومعرفة الأسباب وراء استمراريته وتشخيص ما هو ملائم فيه لمتطلباتنا اليوم. وعلينا الوقوف أمام الإزالة أو تدمير للأحياء التراثية بحجة العصرنة أو الحداثة، مع الأسف نشهد عمليات التدمير والتحطيم لأغلب المؤشرات التراثية حتى أصبحت الأحياء بلا روح عمراني ولنا أن نطلع على من حولنا حتى الغرب المدن الغربية لها رموزها مثل برج إيفل في باريس، ونافورة جنيف، وأكروبولس أثينا وجامعة موسكو وتمثال الحرية في نيويورك وساعة بيج بن في لندن... إلخ. ألا نملك نحن رموزاً معمارية تراثية ليس الهدف (خلق) رموز، بل دعوة إلى معرفة المدينة التراثية والتعمق في دراسة التراث والخزين الحضاري لكل مدينة لأجل إحيائه. العمارة في المملكة لها تنوع وثراء كل منطقة تختلف عن الأخرى مثل المنطقة الشمالية تختلف عن الجنوبية وعن الشرقية وعن الغربية وكذلك الوسط لوجود مجموعة كبيرة من القلاع بها تنوع ثقافي معماري لا بد من العناية به لأنه ذاكرة الوطن وهويته المعمارية. وعلى الجامعات والمؤسسات الهندسية المتخصصة تقديم دراسات وبحوث مصورة تسهم مع الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني لإبراز خصائص فن العمارة التقليدية التراثية في المملكة العربية السعودية ودراسة العوامل الطبيعية والثقافية التي تؤثر في بنيتها وخصائصها الداخلية.
مشاركة :