يمثّل تعاطي المخدرات مشكلة أزلية تؤرق المجتمعات العربية التي تلجأ في التعامل معها بتغليظ العقوبات القانونية وتشديد القبضة الأمنية، دون التركيز على مسبباتها الاجتماعية والنفسية التي تدفع إلى جذب المزيد من الشباب، الذين يطوّرون أساليب جديدة للتحايل على التحاليل الطبية الإجبارية. وتهدد المخدرات جيل الشباب لتؤثر على منظومة المجتمع كاملا، لأنها المنبع الأول للكثير من الجرائم المالية والجنائية كالرشاوى والسرقات والقتل والاختطاف من أجل توفير المقابل المالي لشراء المواد المخدرة، ووصولا إلى انهيار القوى البشرية القادرة على العمل، لكن مواجهتها تتطلب إدماج المتعاطين والمدمنين مجددًا وليس عزلهم أو وصمهم بالعار. وأمام انتشار الظاهرة بين الشباب ومحاولات الأهالي إيجاد حلول لمشكلة تهدد حياة أبنائهم ومستقبلهم، بدأت مراكز علاج إدمان وهمية تفتح أبوابها لمنح وصفات تسهل على المدمنين التحايل على الكشوف الطبية، وانتشار الوصفات الشعبية المضرّة للصحة المعتمدة على أعشاب مجهولة أو تعاطي كميات كبيرة من محلول الخل الأبيض رغم تأثيراته الضارة على المعدة والقولون، ووصل الحال بالبعض إلى حدّ تناول كميات قليلة من منظفات الملابس دون مراعاة لاحتوائها على مواد كاوية. وشهدت الكثير من الصيدليات المصرية اختفاء عقاقير منع الحمل والأدوية المدرة للبول بزعم قدرتها على سحب آثار المخدر من الجسم وطردها خارجه، بصرف النظر عن مخاطرها الصحية، وشاع استخدامها بين المتعاطين وغير المتعاطين في ظل تخوّف الجميع من التدخين السلبي الذي يطال أنوفهم يحكم مخالطتهم لأصدقاء من المتعاطين. وتنتشر بين الشباب في بعض المجتمعات عادات تدخين المخدرات في حفلات الزفاف ليمتلئ الشارع الذي يقطنه العريس بطاولات يجتمع إليها المدعوون وأمامهم نرجيلة عامرة بنبتة “البانغو” وأطباق تتناثر بجوانبها غرامات من مخدر الحشيش، تجاور ما يسمّى بـ”المَازَة” وهي عبارة عن رقائق من البطاطس والمحمصات وبعض الخضروات. من الشائع أن يتلقى العريس يوم زفافه كميات كبيرة من الحبوب المخدرة والمنشطة من زملائه يدسها أصدقاؤه في جيوبه كهدية لكسر الرهبة في ليلة العمر، والكثيرون يتناولونها في خضم سيادة ثقافة تحول أول أيام الزواج إلى معركة يجب أن يخرج الزوج فيها منتصرًا. وقع محمود علي، الشاب الموظف بمحافظة قنا في جنوب مصر، فريسة للتدخين العرضي للمخدرات أثناء حضور عرس أحد أقاربه التي من طقوسها تدخين الحشيش، ورغم عدم اقترابه منها أو المشاركة في حلقة تداول فوهة النرجيلة، إلا أن الدخان المنطلق من أفواه الحضور كان كفيلاً بأن يدخله ضمن دائرة المتعاطين ويهدده بفقدان وظيفته. وتعد الحكومة المصرية مشروع قانون جديد يجرم تعاطي المخدرات، بعدما عمّمت منشورات على جميع الوزارات والهيئات التابعة لها تعلن فيها تدشين حملات فجائية لتحليل المواد المخدرة، معلنة عن قائمة عقوبات تتضمن الفصل من العمل. وينذر اللجوء إلى عقوبة الفصل من الوظيفة دون التأكد من استمرار الشخص في تناول المادة المخدرة بمشكلات شديدة الخطورة، فالموظف الذي يتم تصنيفه كمدمن يشعر بالظلم الاجتماعي، ويصبح مادة خصبة لمن يوظف رغباته الانتقامية، في أعمال إرهابية أو إجرامية، بعد تدمير سمعته ومستقبله. وقال علي، لـ”العرب”، إنه تعرض لتحليل مفاجئ للمخدرات بعد حفل الزفاف لتأتي النتيجة إيجابية ويتم تحويله إلى النيابة العامة، ووصمه اجتماعيًا بتهمة لن تفارقه طوال حياته في سجله الوظيفي وبين أفراد أسرته وزملائه في بالعمل فالكل يعتبرونه مدمنًا. خلط كبيريوجد خلط في المفاهيم لدى واضعي التشريعات ومنفذي القانون من الجهات الأمنية في التفرقة بين المتعاطي بالصدفة أو المدمن المستمر، فبعض القوانين تضعهما على قدم المساواة والفرق الوحيد بينهما من وجهة نظرها الخضوع لبرامج العلاج. ورغم وجود صندوق حكومي في مصر مثلا لمكافحة الإدمان الذي يوفر علاجا سريا ومجانيا، إلا أنه لم يجذب سوى 4 آلاف شاب فقط من أصل 4.2 مليون من المتعاطين الذين يعملون في القطاعين العام والخاص، منذ انطلاق الحملات، وفضلت أغلبية الشباب المراكز الخاصة ضمانا للسرية وحفاظا على مستقبلهم الوظيفي في ظل غياب الثقة بين المواطنين والجهات الحكومية. وتمتلك الدول العربية ترسانة من التشريعات القانونية المحاربة للمواد المخدرة بعقوبات مغلظة تصل إلى الإعدام، لكنها لم تمنع معدلات التعاطي الكبيرة ما يتطلب دراسات توضح أسباب التعاطي وأماكن الانتشار وطبيعته ومدى ارتباطها بأوضاع اجتماعية تدفع بالمزيد من الشباب إلى الإدمان. يتم علاج المتعاطي المستمر (المدمن) عبر برنامج متكامل يبدأ بمرحلة “الديتوكس″ بسحب المخدر من الجسم وبعدها التأهيل بإعادة الدمج في المجتمع، لكن لا يكمله الكثيرون ويكتفون بمرحلته الأولى التي تستغرق مدة تتراوح بين 21 و30 يومًا، ما يعرضهم لانتكاسة. وتشهد وظائف بعينها معدلات أكبر في تعاطي المخدرات، مثل سائقي عربات النقل الثقيل، في ظل عرف سائد بينهم بأنها كفيلة بجعلهم منتبهين على الطرق في رحلاتهم الطويلة التي تصل إلى 14 ساعة متصلة في بعض الأحيان. يتحايل السائقون على تحليل المخدرات الدوري أثناء تجديد رخصة القيادة بجلب عينات لأشخاص غير مدمنين، ما خلق سوقا رائجة تباع فيها عيّنات البول بسعر يصل لنحو 5 دولارات للعيّنة السليمة. في ظل سيادة ثقافة الوساطة والمحسوبية ينتصر كثيرون على القانون بوصفة طبية مؤرخة بتاريخ قديم يبيح تعاطي العقار المخدر لسبب نفسي أو بدني، ما يبرئ صاحبها بسهولة، ويوقع آخرين تحت طائلة القانون بالتهمة ذاتها. ويتداول المصريون موقفا لأحد السائقين أنه جلب “بولا” من زوجته لتحليله، وعند ظهور العينة قيل أن السائق حامل، الأمر الذي اضطره أن يعترف بالحقيقة. ويحظى تعميم تحاليل المواد المخدرة بتأييد كبير عربيّا لمواجهة مخاطرها الصحية والأمنية على مستوى الأسرة والمجتمع ككل، لكن يطالب الجميع بالتطبيق دون استثناءات تحمي وظائف بعينها من الخضوع للتحليل، رغم شيوع التعاطي بين العاملين بها. ويقول حسين أحمد، معلّم مادة الاجتماع بإحدى المدارس الثانوية، لـ”العرب”، إن الجميع يتفق على خطورة المخدرات ولا يوجد عاقل يريد حماية المتعاطين والمدمنين، لكن وضع تحفظات مسبقة تحمي العاملين بالقضاء والجهات الأمنية من الخضوع للتحايل بحجة احترام هيبتهم، ما يكرس التمييز الاجتماعي والطبقي. وفي بعض المجتمعات العربية الفقيرة التي لا يستطيع فيها غالبية الشباب تحمّل التكلفة المالية لزيارة عيادات الأطباء، يتولّى الصيادلة كتابة الوصفات للمرضى وفقا لرؤيته بعد استماعه للأعراض، ويتم صرف الكثير من المسكنات دون وصفة طبية تبرئ الموظف حال اكتشاف بقايا مخدرة في دمائه. وأوضح الشاب محمد سيد (سائق) إنه لا يدخن السجائر ولم يتعاط المخدرات أبدًا لكن التحليل العشوائي الذي خضع له أكد إيجابية العينة، ورغم تكراره أكثر من مرة كان يظهر إيجابيا قبل كشف سبب المشكلة، وهي تناوله المستمر لأحد أدوية القولون التي تحتوى على كمية من المخدر. ويعتبر تحليل خصلات الشعر أفضل تقنية للكشف عن تحليل تعاطي وإدمان المخدرات ومن خلاله يتم معرفة البيانات التاريخية للشخص فكل سنتيمتر من الخصلة الواحدة يحمل بيانات لمدة شهر عن حياة الإنسان، وبالتالي فإن الخصلة التي يبلغ طولها 4 سنتيمترات تظهر بيانات كاملة عن تعاطي الشخص المخدرات أم لا لمدة ثلاثة أشهر. وحذر نبيل عبدالمقصود، أستاذ علاج السموم والإدمان، من بدء حملات تحليل تعاطي المخدرات داخل الجهات الحكومية المصرية دون تحديد آلياته، وسيترتب عليه مشكلات مجتمعية بتسريح أعداد كبيرة من الموظفين ظلمًا رغم أنهم من غير مدمني المخدرات. ويتجه البعض من الشباب إلى عالم المخدرات بحثا عن السعادة الزوجية، فأدوية شهيرة يفترض أنها مسكنة لآلام العظام يتم تعاطيها لدوافع لا تزيد في الأصل عن إطالة العملية الجنسية، لكنها تتحول عند مستخدمها على المدى البعيد إلى حافة الإدمان ليبدأ في طرق أبواب السوق السوداء التي تباع فيها الحبة الواحدة بقرابة الدولارين، الأمر الذي يستنزف طاقة الشباب المعنوية والمادية. دور دينيغلّفت الحملة ضد المخدرات بصبغة دينية عبر وزارة الأوقاف التي خصصت خطبة موحدة ألقاها 120 ألف إمام يوم جمعة، مفادها أن تعاليم الدين والمصلحة العامة تقتضيان التعامل بمنتهى الحسم تجاه المدمنين والمتعاطين كونهم طاقة سلبية في المجتمع. ولا تستطيع الجوانب الدينية وحدها تقديم حل سحري لقضية الإدمان. فالمدمنون مقتنعون بأن سلوكهم خاطئ، وبعضهم يحرص على ممارسة الشعائر، حتى أن الشرطة المصرية صادفت خلال مداهمتها مصنع مخدرات بالإسكندرية أخيرًا امتلاء جدرانه بالآيات القرآنية. وأكد عبدالمقصود، لـ”العرب”، أن غالبية الموظفين يتناولون عقاقير تتضمن مواد مخدرة لتخفيف آلام الصداع والأسنان والمفاصل، والنسبة تتزايد في أدوية السعال المصاحبة لنزلات البرد، والتي تبدو نتائجها إيجابية في تحليل تعاطي المخدرات. وتزيد التغيرات المستمرة في تركيبات المواد المخدرة المخلقة كيميائيا من صعوبة المواجهة القانونية المنفردة، فأسماء جديدة تظهر باستمرار وآخرها “الفلاكا، الفودو، والاستروكس”، وبعدها يصل تأثيره إلى 400 ضعف تأثير مخدر الحشيش العادي. وكشف البيان التمهيدي للدورة الـ14 لملتقى حماية الدولي، الذي استضافته دبي في 28 و29 أبريل، عن تحديات كبيرة تواجه أجهزة مكافحة المخدرات في العالم، فخلال الخمس سنوات الأخيرة تم رصد 739 مادة مخدرة مستحدثة، ما يعكس حجم المسؤولية الملقاة على عاتق جميع الأطراف المعنية بمواجهة المخدرات. ويوجد نوعان من تحليل المخدرات أحدهما مبدئي بأشرطة اختبار التي تكتشف ستة أنواع من المواد المخدرة، وإذا ثبتت إيجابيته تسمح النيابة العامة بالحصول على عينة وترسل إلى الطب الشرعي لإجراء التحليل “التأكيدي الكيميائي” الذي لا يقبل التشكيك في صحته. وتكتفي المجتمعات العربية بعقد الندوات والمؤتمرات لتوعية الشباب والمراهقين حول مخاطر الإدمان دون نقل توصياتها إلى الواقع العملي، ولا تزال غالبية الأسر تجهل حتى الآن كيفية ملاحظة السلوك الإدماني لدى أبنائها مبكرًا في ظل تنامي ثقافة انعزال الأبناء عن الاختلاط بالأبوين، وتنامي انتشار الهواتف المحمولة والأصدقاء الافتراضيين على مواقع التواصل الاجتماعي. وتغيب فكرة الجماعات العلاجية للمتعاطين والمدمنين خوفا من العار أو الفضيحة، رغم أنها من أفضل وسائل العلاج التي تحول دون الانتكاس لأنها تتيح لهم التعبير الحر عن مشاكلهم ومشاعرهم بشكل صريح، ومن بينها البطالة والحرمان العاطفي وفقدان الأمل في المستقبل. قرر بنك ناصر الاجتماعي، التابع للحكومة المصرية، تخصيص 2.8 مليون دولار كقروض للمتعافين من الإدمان لبدء حياة جديدة، فيمكن للمتعافين أن يتقدموا بفكرة في حدود المئة ألف جنيه (5715 دولارًا) مع وثيقة تثبت تعافي صاحبها من الإدمان ويتم دراستها لمنحه التمويل، لكن غالبية المتعافين يواجهون مشكلة في كيفية تقديم فكرة مشروع ناجح وإدارته. وأوضحت سامية خضر، أستاذة علم الاجتماع، أن التركيز الكبير على قضية المخدرات وتغليظ العقوبات على المتعاطين والمدمنين يرتبط بتفشي نوعيات جديدة من الجرائم الغريبة مجتمعيا، مثل زنا المحارم وقتل الوالدين والتي تظهر تفاصيلها دائما في غياب الإدراك والعقل تحت تأثير المخدرات أو الخمور. وشهدت بعض المجتمعات العربية نمطا جديدًا من الجرائم في السنوات الخمس الأخيرة بزيادة كبيرة في معدلات الجرائم الأسرية، مثل قتل الوالدين والأبناء وتنامي الاعتداءات الجنسية داخل الأسرة، وانتهاك الأطفال الصغار وجرائم الخطف داخل العائلة الواحدة، وكانت المخدرات الرابط الوحيد في الكثير منها. وتقول خضر، لـ”العرب”، إن الدراما والسينما مسؤولتان عن جزء من تفشي الإدمان، حيث تصور بعض الأعمال المخدرات كوسيلة للحصول على النشوة والمتعة ونسيان هموم الحياة، وترتبط مشاهد التعاطي بمقاطع من الضحك والسرور والرقص ما يغري بالتقليد. وتؤكد أستاذة علم الاجتماع أن الأعمال الفنية القديمة كانت تصور المدمن بصورة منفرة للمجتمع ليصبح عبدًا لمن يعطيه المخدر يلعق الحذاء ويتعرض للإهانة والذل والضرب، لكن الصورة تغيرت مع ظهور جيل من الممثلين يقدمون أدوارًا لأبطال شعبيين لا تفارقهم السجائر المحشوة بالمخدرات.
مشاركة :