ما أحوج كثير من الناس إلى العزيمة على التغيير والاستمرار فيه بمفهوم «ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى» وما أحوج كثير من المشايخ والدعاة والمفكرين إلى تصحيح المسار، ورسم الصورة المرغبة في التدين وإن كان في ذلك بعض اللوم والعتاب.. لعل كثيرًا من الناس لهم مفهوم سلبي لكلمة “التغيير”، ولا غرابة، إذ حُفّت هذه الكلمة بكثير من المنفرات، وأشدها تنفيرًا تلك التي لها إيحاءات دينية تصف متبني التغيير بكثير من الأوصاف التي تحول بينهم وبين التفكر فيما يفعلونه ويقررونه. وبما أننا في شهر الصوم وهو شهر تغيير، ناسب أن نذكر بضرورة استجماع العزيمة لمواجهة الموانع التي تحول بيننا وبين إحداث الجديد في حياتنا، ولا أعني بالجديد شيئًا خارجًا عن ثوابت ديننا، وإنما أعني بالجديد هو تجاوز عقبة “اللوم” التي هي من أكبر موانع التغيير. في رمضان يقبل الكثير على حياة جديدة تربطهم بعض الشيء بواقع يختلف عن ما قبله وما بعده، واقع قد يخلو من كثير من الممنوعات والأخطاء التي تُجتنب حرمةً وتعظيمًا لشهر الصوم، ثم ما إن تكتمل أيامه حتى يعود الأمر كما كان عليه من قبل، فلم يغير رمضان في تلك النفوس شيئًا ملموسًا، ولا يعني ذلك التقليل والتزهيد في إقبال المقبلين في رمضان، بل إن الأمر كذلك عادة يتغير الناس في رمضان تغيرًا إيجابيًا، فهو النفحة الربانية التي يفوت بفواتها خير كثير. ولعل المفهوم الذي انطبع في أذهان كثير من الناس عن “التدين” إن صح التعبير هو ما يمنع الكثير أيضًا من الاستمرار في التغيير الذي أحدثوه في رمضان، إذ إن كثيرًا منهم ارتبط بأشياء من مباحات وملهيات الدنيا لا يريد تركها وفقًا لما استقر في ذهنه عن مفهوم التدين، وأن التدين يعني الخروج من الدنيا والتنصل عن ملهياتها ومباحاتها والأخذ في كل شيء بأحوط الأمر، والتضييق على النفس، وترك الرفقاء والأصدقاء لأنهم وفق ما قرر في ذهنه “رفقاء سوء” فيصعب عليه الاستمرار في التغيير الذي أحدثه فيه رمضان لمثل هذه المعاني. وفي روضة العقلاء يقول أبو العتاهية دخلت المسجد الجامع فوجدت أبا نواس جالسًا متربعًا يذكر الله، فألححت عليه بالنصح فأنشأ: أتراني يا عتاهي تاركًا تلك الملاهي أتراني مفسدًا بالنسك عند القوم جاهي ومهما يكون الذي قيل في أبي نواس إلا أن هذا التخوف متوارث، أعني النظر إلى ما يسمى “بالمتدينين” على أنهم يحرمون أنفسهم من متاع الدنيا، وينظرون لكثير من المباحات بعين الفقه والأحوط والأولى، الخ. وهذا الأمر لا شك في وجوده ولكن على مستوى ضيق وفي أوساط قلة من العباد والزهاد، وليس الأمر كما يروج له أن التدين والالتزام – إن صح التعبير – يعنيان الدخول في حياة منكفئة عن الناس، وفي رفقة لا يعرفون إلا افعل ولا تفعل، وبمميزات من أطعمة وأشربة وألبسة تجعل المنتسب إليهم يعرف ولو من بعيد، فكل ذلك حين أصبح رمزًا وعلامة على التغيير الإيجابي خشيه كثير من الشباب خوفًا على ما ألفوه ويهوونه. وفي المقابل وعلى النقيض هناك الكثير من الشباب ممن أحدث تغييرًا في نفسه بمفهوم “التدين بحسب رأي فلان وفلان” يريد فكاكًا وخلاصًا مما وقع فيه غير أنه ينظر يمنة ويسرة فيتصور مدى اللوم الذي سيلحق به، ثم سماعه لتثبيط جلسائه له عن إحداث أي تغيير في نفسه، فيلزم طريقته وأسلوبه وهو يرى الحق في غيره، لأنه يظن ذلك انقلاباً على عقبيه، أو فتنة أشربها قلبه! ولا يختلف هذا كثيراً عن حال عبدالمطلب حين كان النبي صلى الله عليه وآله يلقنه الشهادة فيقول جلساؤه: أترغب عن دين آبائك؟ فمنعه واقعه وجلساؤه فلاح الدين والدنيا. فما أحوج كثير من الناس إلى العزيمة على التغيير والاستمرار فيه بمفهوم (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) وما أحوج كثير من المشايخ والدعاة والمفكرين إلى تصحيح المسار، ورسم الصورة المرغبة في التدين وإن كان في ذلك بعض اللوم والعتاب. هذا، والله من وراء القصد. نقلا عن صحيفة الرياض
مشاركة :